فهد الحسن-ديرالزور
عندما يحُجب الإنسان عن أحبائه فإنّه سيُعاني الأمرّين من وحشة الوحدة وألم العزلة، إلّا أنّ هذه المشاعر لا تقتصر عليه وحده بل يعاني ذووه وأحباؤه أيضاً بسبب غيابه، الأمر الذي سيؤثر على مختلف نواحي حياتهم وتبدأ مع اختفائه سلسلة طويلة من الصعوبات لا تنتهي إلا بعودة فقيدهم أو معرفة مصيره على الأقل حتى ولو كان ميتاً.
متى يعود أبي:
هذا السؤال الذي لطالما تردّد على مسامع أم عبد الله من ابنها وهو يسأل عن أبيه المعتقل منذ خمس سنوات، تحاول دائماً التهرّب من الإجابة ولا ينتهي إصراره الدائم إلّا بالإجابة الوحيدة التي تملكها لابنها “اُدعُ لهُ أن يعود قريباً”.
أم عبد الله ذات ال (38) عاماً اعتُقل زوجها بعد وضعها لمولودها الرابع بعدة أشهر، تقول “بعد اختفاء زوجي أصبحت المهام التي أقوم بها مضاعفة وخصوصاً في ظلّ الوضع الاقتصادي السيّء الذي تعانيه المنطقة”.
تتابع أم عبد الله عن الصعوبات التي تواجهها في سبيل تأمين لقمة العيش وتربية الأطفال بمفردها “ثلاثة من أولادي يذهبون إلى المدرسة، أمّا ابني الأصغر فإنّي أضطر لوضعه عند جارتي حتى عودة إخوته من المدرسة لأتمكن من الذهاب إلى عملي الذي يبدأ منذ ساعات الصباح الأولى وينتهي قبل غروب الشمس، غالباً ما أكون متوترة ومشوّشة في عملي الذي هو سبيل عيشي الوحيد بسبب شعوري الدائم بالتقصير تجاه تربية أولادي الذين يشعرون بالوحدة والعزلة والفقدان”.
تسعى أم عبد الله جاهدة لمعرفة مكان اعتقال زوجها الأمر الذي عرضها لعمليات ابتزاز كثيرة من أشخاص حاولوا استغلال حاجتها للوصول إلى أي خبر عن زوجها أو تأمين اتصال معه، وتضيف: ” لم أجد أي مساعدة من أبناء المنطقة المقيمة فيها كوني نازحة وغريبة، وقد بتُّ أكره تلك النظرات الغريبة تجاهي وتجاه أبنائي”.
رجال مفقودون ونساء وأطفال يكافحون:
أم محمد (40) عاماً أم لثلاثة أطفال أكبرهم (15) عاماً، اعتُقل زوجها منذ حوالي السنتين، تتحدث عن معاناتها بعد اختفاء زوجها: “نحن مهجرون وليس لدينا أقارب، جميعهم هاجروا خارج البلاد وكان زوجي هو المعيل الوحيد لعائلتي، بعد اعتقاله اضطر ابني الأكبر لترك مدرسته للعمل وتحمل أعباء المنزل بالكامل.”
تحاول أم محمد إيجاد عمل لمساعدة ابنها الذي يضطر إلى دفع نصف أجره تقريباً تكاليف المواصلات للوصول إلى مكان عمله البعيد حسب قول أم محمد إلا أنها لم تحظَ بأي فرصة كونها غير متعلّمة، وتتابع “يساعدنا أهالي المنطقة التي نقطن بها بدفع آجار منزلنا وتأمين بعض المستلزمات وتوفير لوازم التدفئة لكنّني أرى نظرات الشفقة تجاهي وتجاه اطفالي باستمرار”.
عندما يكون الاختفاء أقسى من الموت:
منذ ثلاث سنوات لا تزال سناء -اسم مستعار- (51) عاماً تبحث عن أبنائها الأربعة الذين تم اعتقالهم في يوم واحد، وباءت كل محاولاتها لمعرفة مصيرهم بالفشل، تعلّق على ذلك بقولها” اختفاؤهم أقسى من موتهم، فهم الآن ليسوا في عداد الأحياء ولا الأموات”.
لا يختلف حال هؤلاء السيدات عن حال عائلات المفقودين الذين ترتفع أعدادهم وفق اللّجنة الدوليّة لشؤون المفقودين (ICMP) بعد عشر سنوات من الصراع السوري[1]، وأياً كانت الجهة التي تقوم بالاعتقالات التعسفية وتمنع عوائل هؤلاء المختفين قسريّاً من معرفة أسباب وأماكن اعتقالهم أو حتى مصيرهم، فهم يطالبون بأن تكون لديهم مراكز أو لجان في كل منطقة لتوثيق حالات الاختفاء ومحاولة جمع معلومات عنهم ومعرفة الإجراءات التي اتخذت بحقهم أو حتى مصيرهم كي لا تتعرض هذه العوائل للاستغلال أو الابتزاز من جهات أخرى.
آثار الاختفاء القسري على التعليم:
سعد -اسم مستعار- (17) عاماً من منطقة “حاوي الحصان” غربي ديرالزور يتحدّث عن اعتقال أبيه وأخيه منذ عام 2016 “ذهب أبي وأخي لتسوية وضع أخي الذي كان متطوّع في سلك الشرطة في محافظة الحسكة في عام 2016، حيث كان تحت سيطرة تنظيم الدولة الذي قام باعتقالهم، انقطعت أخبارهم عنا باستثناء بعض الأخبار غير المؤكدة عن تصفيتهم وانعكس ذلك علينا أنا وأخوتي، حيث اضطررنا لترك التعليم والتوجه للعمل لتأمين أدنى سبل العيش لأُسرتنا”.
وفي لقاءٍ أُجري مع أحد مسؤولي التعليم في ديرالزور فضّل عدم ذكر اسمه ذكر لنا بأنّ نسبة المتسرّبين عن المدارس يتراوح بين ال (15) وال (20) طالب من كل مدرسة، خمسة منهم على الأقل ليس لديهم أيٌ مسؤول عن إعالتهم مما يضطرهم للعمل وترك التعليم وبذلك نشهد زيادة مستوى تسرّب الاطفال من المدارس.
جهود وإجراءات لتوثيق حالات المفقودين:
إن توثيق حالات المفقودين تتطلب إجراءات بحثيّة دقيقة وشاملة من خلال تتبع جميع الدلائل التي توصل إلى أدق التفاصيل، وذلك من خلال اللقاءات مع أهالي وذوي المفقودين والاستماع لجميع ما يرد من معلومات وتتبع الآثار الناجمة عن فقدانهم سواء اجتماعيّة أو اقتصاديّة.
وفي تصريح للمديرة العامة للجنة الدولية لشؤون المفقودين كاترين بومبرغر[2]:”يتطلب العثور على الأشخاص المفقودين بسبب الصراع السوري جهوداً منسقة وطويلة الأمد”. وبذلك دعت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين إلى خطة منسقة للعثور على المفقودين ومعالجة هذه القضية الرئيسية المرتبطة بحقوق الإنسان.
حملات إعلاميّة وبرامج لإيصال أصوات المفقودين:
حملات إعلامية عديدة تقوم بها منظّمات ومؤسّسات محليّة لإيصال أصوات وعوائل المفقودين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإنسانيّة واللجان الدوليّة التي تعمل على ملفات المفقودين، وذلك من خلال فعاليات ثقافيّة واعتصامات مدنيّة تبين الأوضاع الإنسانيّة المتردية التي أصابت هذه العوائل وأطفالهم.
يعمل المركز السوري للعدالة والمساءلة على ملف المفقودين في جميع أنحاء سوريا ويركز بشكل خاص على الكشف عن مصير المفقودين في شمال وشرق سوريا بسبب الغارات التي شنها التحالف الدولي.
وبحسب المركز فإن الاستقرار النسبي في شمال وشرق سوريا يسمح بإجراء تحقيقات معمقة والتي لا يمكن إجراؤها حالياً في معظم أنحاء سوريا، ويتكون البرنامج من ثلاثة مجالات رئيسية[3]:
-التحقيق في المقابر الجماعية
-توثيق وتحليل حالات الأشخاص المفقودين.
-إعلاء صوت عائلات المفقودين.
الاختفاء القسري انتهاك لحقوق الانسان:
في لقاء لأحد الناشطين الحقوقيين -طلب عدم التصريح عن اسمه لأسباب أمنيّة- يقول:”منذ عام 1980 لم تتوقف المجازر، وضلّت سجون السلطات السورية مليئة بآلاف المعارضين ومعتقلي الرأي، وزادت هذه الانتهاكات منذ بداية الثورة السورية بالاعتقالات التعسفية من قبل مختلف أطراف الصراع التي توالت على المنطقة حيث تم تغييب الكثير من الشباب والأطفال والرجال وحتى النساء لم يسلمن من ذلك”.
وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006 اتفاقية دولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري[4]، وتنص هذه الاتفاقية الدولية على حماية كافة الأشخاص من الاختفاء القسري، وأنّه لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري، ولا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلّق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأي حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري وهي الاتفاقية التي دخلت حيز التنفيذ عام 2010. كما ذكرت منظمة العفو الدولية أن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري تهدف إلى منع الاختفاء القسري وكشف تفاصيل حقيقة ما جرى والحرص على تحقيق العدالة للناجين والضحايا وعائلاتهم والكشف عن الحقيقة وتلقي التعويض المناسب[5].
كما تحدث لوسيانو هازان، رئيس فريق العمل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي أمام مجلس حقوق الانسان في جنيف أنه”لا يجب أن يكون المجتمع الدولي محايداً في وجه مثل تلك المعاناة، ولكن عليه أن يعزز جهود التعاون ويزيد من المساعدات المتاحة للضحايا، ويتابع التحقيقات والملاحقات القضائيّة على المستويين المحلي والدولي”.[6]
[1] اللجنة الدولية الدولية لشؤون المفقودين – آذار/مارس 2021.
[2] المصدر السابق.
[3] برنامج الأشخاص المفقودين – المركز السوري للعدالة والمساءلة.
[4] الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
https://www.ohchr.org/ar/hrbodies/ced/pages/conventionced.aspx
[5] الاختفاء القسري – منظمة العفو الدوليّة.
https://www.amnesty.org/ar/what-we-do/disappearances/
[6] خبراء حقوقيون يحذرون من الأثر المضاعف للإفلات من العقاب في حالات الاختفاء القسري-أخبار الأمم المنتحدة-أيلول/سبتمبر 2020.
https://news.un.org/ar/story/2020/09/1061832