نجوم سورية خانت مدلج
غيث الأحمد
14 نوفمبر 2015
أبسط 8 خطوات يقالُ لمن يسير في الليل ويتخذ النجوم دليلاً له لتحديد الاتجاهات “مدلج”. وهذه نقمة على من أحب الليل، وداوم على السير خلاله بعد اندلاع الثورة السورية. أثناء الليل، تنشط أجهزة الأمن والاستخبارات، وتعتقل الناشطين السلميّين.
“لا أستطيع إخماد نار ذكراه في قلبي”. هذا ما تقوله أم مدلج لـ”العربي الجديد”، وهي تستحضر ذكرى اختطاف ولدها في يوم أربعاء مشؤوم قبل عامين في منطقة يُحكم النظام السوري السيطرة عليها داخل مدينة دير الزور، التي تضم مليشيا الدفاع الوطني التي شكلها النظام من الموالين له لملاحقة الناشطين واعتقالهم وإخماد نار الثورة. ما زالت تحلم بعودة مدلج بعد عامين من اعتقاله. كان قد أخبرها قبل خروجه في هدأة الظهر ذاك اليوم أنه “لن يتأخر”، وطلب منها تحضير حلويات تجيد صنعها وتشتهر بها بين الجيران، وخصوصاً “كعكة جوز الهند”.
تجزم أن ابنها على قيد الحياة. ما زالت تسمع نبضاته في قلبها. تخرج من جيبها صورة لطفل صغير يبقى حاضراً أمام عينيها. ملّت الانتظار وخصوصاً أن المكان الذي ذهب إليه ولدها “الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود”. تقول: “زوجي لم يشعر بحجم المصيبة بعد. ما زال في حالة من الصدمة، فقد كان يحبه كثيراً”.
دلّها أحدهم على شخص مقرّب من الاستخبارات السورية دائماً ما يجلس أمام محلّه التجاري وسط حي القصور، ويطلق عليه اسم “المفتاح”، مهمّته التوسّط بين الضباط والمواطنين في مقابل الحصول على مبلغ مالي بعد الإفراج عن المعتقلين.
جنى ضباط الجيش السوري وأجهزة الاستخبارات أموالاً طائلة بسبب عمليات الخطف والاختفاء القسري، من خلال استغلال رغبات أقارب المخطوفين.
كان “المفتاح” بديناً كما تخيلته أم مدلج ومتعجرفاً. أخبرته أن لها ولداً مخطوفاً منذ مدة. نظر إلى جهة أخرى من دون النظر في عينيها، قائلاً: “صار الأمر يكلّف كثيراً. أحتاج إلى 50 ألف ليرة كي أسأل عنه. وفي حال عثر عليه، يجب دفع 500 ألف ليرة ليتمكن من الخروج”. بعد نحو شهر من حصوله على المبلغ الأول، أخبرها أن ابنها متورّط بقضية إرهاب ضد الدولة، ولا يستطيع فعل شيء.
كان مدلج كثير القراءة والتأمل، وحلم بأن تكون سورية المدينة الفاضلة التي تصورها أفلاطون في عصره، ما دفعه للانخراط في صفوف الثورة والدفاع عن قيمها ومبادئها، والتفاعل مع أحداثها. طول قامته وبشرته السمراء وملامح وجهه العريضة كانت توحي بأنه شخص عديم الشفقة، لكنه لم يكن يقوى على سماع بكاء طفل. هذا ما يقوله صديقه عارف عنه، مضيفاً أنه كان يحب التجول في شوارع المدينة ليلاً، وهذا ما جعله فريسة سهلة لقوات النظام. ويشدّد على أن قوات النظام خطفته لأنها تحكم السيطرة على المدينة بشكل كامل.
كلّ من رآه في ذاك اليوم لاحظ ابتسامة على وجهه وهو يرتدي بنطالاً وكنزة خضراء خفيفة على الرغم من برودة الطقس. بقي حتى ساعة متأخرة من الليل برفقة صديقه جالسين أمام حديقة الحي المعروفة، ثم فقدا. آخر من رأى مدلج وصديقه في تلك الليلة كان عبد العزيز. كانا يجلسان على سور الحديقة المنخفض وقد وأوقدا النار للتدفئة. يقول لـ “العربي الجديد”: “كانا صامتين”. أخبراه قبل أيام عدة بنيّتهما الخروج من المدينة إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية نتيجة التضييق الأمني.
ربما هي النسمات في مدينة دير الزور الممزوجة برائحة نهر الفرات وأغصان شجر الغرب هي التي كانت تدفع مدلج ورفاقه للسهر حتى ساعات متأخرة. باتت شوارع المدينة بعد غروب الشمس تخلو من أي مظاهر للحياة. يقول عبد العزيز: “نشعر بالغربة هنا. لن تعود المدينة إلى الحياة إذا لم يتم الكشف عن مصير مدلج وإبراهيم وسامي ومهند”، مضيفاً إن الوطن “ليس الحجارة وإنما هم الأصدقاء والأهل”.
خسر صديقيه
يذكر صديق مدلج، عبد العزيز، الذي كان آخر من رآه في الليلة التي اختفى فيها وصديق آخر، أنه بعدما مرّ بهما، رأى حاجزاً تابعاً لمليشيا جيش الدفاع الوطني التابع للنظام السوري. يقول إن الحاجز كان قريباً منهما (مدلج وصديقه)، وفيه ثلاثة عناصر كانوا يضحكون كثيراً ويتفوهون بكلمات بذيئة. يضيف أنهم كانوا سكارى على الأرجح. يتذكر الأمر بحزن، فقد خسر صديقيه، أقلّه حتى الآن.
http://www.alaraby.co.uk/society/2015/11/13/%D9%86%D8%AC%D9%88%D9%85-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D9%85%D8%AF%D9%84%D8%AC