تواجه مدينة الحسكة، الواقعة عند نقطة التقاء نهري جقجق بالخابور، أزمة مياه مستمرة غير مسبوقة، مع كل ما يترتب عليها من تداعيات بيئية واقتصادية واجتماعية وغيرها التي تزامنت مع العجز المائي وسنوات الصراع المتأزمة، مهددةً أبسط سبل الحياة اليومية واحتمالات العيش الكريم. وعلى الرغم لما تشير إليه الدراسات الهايدروجغرافية من غنى المحافظة بالموارد المائية الطبيعية الغنية بالمياه السطحية الجارية والجوفية نظراً لتوضعها في قلب حوض دجلة والخابور، إلا أنها تشير إلى أن التغيرات المناخية، وندرة الأمطار، والعوامل الجيوسياسية (الخارجية منها والداخلية)، قبل وبعد النزاع المسلح في 2011، لعبت دوراً كبيراً في تحول مشكلة شح المياه إلى أزمة حقيقية منذرة بكوارث بيئية وصحية واجتماعية.
تُعزى هذه الأزمة في أراضي شمال شرق سوريا بشكل رئيسي إلى ما يُعرف في أوساط الدراسات الأكاديمية والمنظمات الحقوقية الإنسانية بـ “نزاع المياه” (water conflict)، وخاصة فيما يتعلق بالمياه العذبة. يتضمن هذا النزاع السيطرة على الموارد المائية والمنشآت المرتبطة بها واستخدامها كأداة استراتيجية (water as a weapon) لإظهار القوة والنفوذ بين الأطراف والدول المتنازعة تتباين أساليب الدول في استخدام هذا النوع من العنف داخلياً وخارجياً، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وتميز الدراسات الأكاديمية بين نوعين من العنف في هذا السياق: العنف المتسارع (accelerated violence) المرتبط بالنزاعات الحضرية وتدمير المدن (urban warfare and urbicide) والعنف البطيء (slow violence) والمرتبط ارتباطا وثيقا بالعنف البنيوي (infrastructural violence). من أبرز هذه الممارسات: استهداف البنية التحتية للمياه، قطع إمدادات المياه من الأنهار وروافدها والوديان من قبل دولة المنبع بشكل متكرر عن الدول المجاورة بحجة تنفيذ مشاريع تنموية أو بناء سدود مؤقتة، بالإضافة إلى تصريف المياه العادمة غير المعالجة في مجاري الأنهار وروافدها قرب الحدود. تتجمع هذه الممارسات في حالة شمال شرق سوريا، كما ستوضح هذه الدراسة لاحقاً، لتصبح واقعاً يومياً له تداعيات على مستقبل المنطقة الذي شكلته النزاعات بشكل غير واضح المعالم.
في سياق النزاع المسلح واستمرار العمليات العسكرية المستمرة التي تنفذها الأطراف المتنازعة في شمال شرق سوريا، تم استهداف البنية التحتية والمنشآت المدنية بشكل مباشر، إلى جانب المواقع العسكرية. وقد شمل هذا الاستهداف مرافق المياه والطاقة والنفط الضرورية للحياة اليومية للسكان المحليين. وفقاً لتقارير منظمات حقوقية وإنسانية متعددة، بما فيها هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) في فبراير/شباط ٢٠٢٤، فإن هذه الأعمال قد أثرت بشكل كبير على حياة السكان وبقائهم. وقد تفاقم الوضع بسبب موجات النزوح المتتالية، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في الطلب على الموارد المائية. فعلى سبيل المثال، ارتفع عدد سكان محافظة الحسكة من أقل من نصف مليون نسمة إلى ما يقارب مليوني نسمة بحلول نهاية عام 2019، وفقاً للتقرير ذاته. ويقيم النازحون حالياً في مساكن مؤقتة متنوعة، تشمل المنازل والمدارس والمباني المتضررة في المناطق الحضرية والريفية، بالإضافة إلى المخيمات غير الرسمية. وبالتالي، فيعتبر التوقف المتكرر لمحطة علوك منذ عام 2019، والتي تعد المصدر الرئيسي للمياه لأكثر القاطنين والنازحين في مدينة الحسكة وضواحيها والمخيمات المحيطة، القشة التي قصمت ظهر البعير، مسبباً عجزاً لا يطاق. وقد أثرت هذه التحديات المائية على جميع جوانب الحياة، مما تسبب في آثار سلبية واسعة النطاق على السكان المحليين والنازحين. وقد شمل ذلك شللاً جزئياً للأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالمياه، خاصة في القطاع الزراعي وتربية المواشي، والتي تعتبر مصدر الدخل الرئيسي لسكان المنطقة، بالإضافة إلى استنزاف و تلوث الموارد الطبيعية و تهتّك البنى التحتية والمبنية.
وفي سياق هذه التحديات المختلفة والمتزامنة، ظهرت حلول إسعافية ونظم بديلة تهدف إلى تغطية الحد الأدنى من العجز المائي وتأمين الحدود الدنيا للاحتياج اليومي للمياه. تتركز هذه الحلول في نقل المياه بالصهاريج (العامة والخاصة) من مصادر مختلفة ومستحدثة، كالآبار والمناهل المحلية والمجاورة، والتي تعتبر بعيدة نسبيًا عن مناطق النزاع المباشر. كما تشمل إنشاء مشاريع لجر المياه من مصادر متنوعة، سواء من الأنهار (ويعد مشروع جر مياه الفرات من أحدثها) أو من محطات تعتمد على حفر آبار محلية. إلا أن الحفر غير الممنهج والاستنزاف الجائر وغير المنظم للآبار أدى إلى انخفاض شديد في مستوى وجودة المياه الجوفية، وارتفاع نسبة تركز الأملاح فيها، وجفاف بعض الآبار وردمها. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر معظم المياه المنقولة من الآبار والمناهل، والتي تتسرب إليها المياه العادمة غير المعالجة، لمعايير الأمان والجودة، لتصل إلى سكان المنطقة مسببة آثاراً صحية جسيمة وانتشاراً للأمراض والأوبئة المختلفة. إلا أن هذه الحلول تعجز عن تلبية الحد الأدنى لاحتياجات المياه، وتفتقر بشدة إلى دراسات هيدروجيولوجية (hydrogeological) واسعة ومعمقة، وتخطيط حضري متكامل (integrated urban planning) يتضمن البنى التحتية، ودراسات جدوى اقتصادية وتقييم المخاطر، وتفكير مستدام يتجاوز الحلول الإسعافية. وبالتالي، تتقاطع العوامل المسببة لأزمة المياه مع ضيق أفق الحلول الإسعافية، لتنذر بكوارث إنسانية وبيئية عابرة للحدود وغير عابئة بالنزاعات.
في ضوء التطورات الراهنة والحاجة إلى تبني نهج مستدام، تسعى هذه الورقة إلى تحليل أبعاد مشكلة نقص المياه والحلول العاجلة في مدينة الحسكة. وتستند الورقة البحثية إلى وجهات نظر ممثلين من مختلف شرائح المجتمع المدني والمحلي، بالإضافة إلى ممثلين عن الإدارات المعنية. كما تعتمد على مقارنة هذه الآراء مع تقارير ومصادر إعلامية وأكاديمية متنوعة. وتقدم هذه الورقة تحليلاً شاملاً لآثار أزمة المياه المتعددة والمترابطة، مع التركيز على تداعياتها الطبيعية والجيوسياسية والبيئية والصحية والعمرانية والتقنية والبنيوية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى جوانب أخرى ذات صلة. وتبني الورقة على نتائج هذا التحليل لتقديم مجموعة من التوصيات والحلول المقترحة لمعالجة أزمة المياه في مدينة الحسكة. وتهدف هذه التوصيات إلى تحسين إدارة الموارد المائية وتعزيز الاستدامة على المدى الطويل، مع مراعاة الظروف المحلية والتحديات الراهنة. كما تسلط الضوء على أهمية التعاون بين مختلف الجهات المعنية لتحقيق نتائج ملموسة وفعالة في مواجهة هذه الأزمة الحيوية.
لقراءة الورقة كاملة: أزمة المياه في مدينة الحسكة – تقييم الأدوار التحديات والفرص