فرحان المحمد – دير الزور
“احتياجات عائلتي كثيرة، أحياناً لا نأكل سوى الخبز، أبي توفي منذ زمنٍ وأنا أكبر إخوتي والمسؤول عنهم، تركت المدرسة منذُ وفاة والدي، في البداية كان طلب المال من الناس واستعطافِهم صعباً عَلّيَ لكن كنت أتذكر كم تمَ استغلالي عندما حاولت أن أعملَ فاعتدت على ذلك وأصبح الأمر عادياً أقومُ به بشكلٍ متكررٍ للحصول على المال”.
يقول علي في حديثه معنا، وهو طفلٌ يبلغ من العمر (13) عاماً رأى في التسول وطلب المال من الناس سبيلاً للحصول على المال بعد وفاة والده وسوء وضع عائلته الاقتصادي واستغلاله من قِبَل الأشخاص الذين عمل لديهم.
أوضح تقريرٌ أصدرته لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية في العام 2020، أن سنوات الحرب حملت انتهاكاتٍ صارخةٍ لحقوق الأطفال الأساسية، من بينها القتل والتشويه واليتم والحرمان من التعليم وتحمل وطأة العنف الذي ترتكبه الأطراف المتنازعة، إضافةً إلى تشريد أكثر من خمسة ملايين طفلٍ داخل سوريا وخارجها.
من العوامل المساعدة في انتشار ظاهرة تسوّل الأطفال في مناطق شمال شرق سوريا تردّي الوضع الاقتصادي وانهيار القطاع التعليمي وتسرّب الأطفال من المدارس، وأكثرها تأثيراً غياب الرادع القانوني وعدم فرض التعليم الإجباري من قبل السلطات المسيطرة، إضافة إلى فقدان الكثير من العائلات معيلها بسبب الحرب.
التقينا مع علي ووالدته في منزلهم الصغير الذي يأويهم في قرية (الزغير) في دير الزور، يقول علي والتعب ظاهرٌ على وجهه رغم صغر سنّه: “عائلتي تحتاج الى الكثير من الاحتياجات فنحن في بعض الأحيان لا نأكل سوى الخبز، أبي توفي منذ زمنٍ وأنا أكبر إخوتي و المسؤول عنهم، تركت المدرسة منذ وفاة والدي، عملت في بِقالةٍ وعملت لدى ميكانيكي سيارات أمسح الأرض وأُرتب الورشة لكنهم لم يعطوني أْجوري كاملةً و بعض الأحيان، وبسبب خطأ بسيط كنت أرتكبهُ يحرمونني من أجْرَ يومي كاملاً وهذا تكرر كثيراً وليس لدي أيَ أحدٍ يُطالب لي بحقي، في إحدى المرات كنت في السوق ورأيت أطفالاً يدخلون إلى أصحاب المحلات ويطلبون المال منهم ومن المارة وكان غالبية الناس يُعْطونهم، بعدَ عدة أيامٍ حاولت أن أفعل مِثلَهم وذهبت للسوق وبدأت أطلب من المارة المال وأقول إني بحاجةٍ له”. صمت علي قليلا وكان الحزن يملئ عينيه المتعبتين وأكمل: “حقاً كنت بحاجته، كان أغلب الناسِ يُعطونني وكنت أجمع من ذلكَ مبلغاً يكفي احتياجات عائلتنا البسيطة، في البدايةِ كان طلب المال من الناس واستعطافِهم صعباً علي لكن كنت اتذكر كم تمَ استغلالي عندما حاولت أن أعمل فاعتدت على ذلك وأصبح الأمر عادياً أقوم به بشكلٍ متكررٍ للحصول على المالِ”.
تحدثت لنا الوالدة: “توفي والد علي منذ خمس سنواتٍ، أنا أمٌ لطفلين، عند وفاة زوجي أصبح وضعنا سيء جداً ولم يمد أحدٌ لنا يد العون حاولت تحسين وضعنا لكن لم تساعدني الظروف، لم أقبل تَرك عَلي للمدرسة لكن لم أكن قادرةً على إقناعه وأصّر على العمل، تم استغلاله كثيراً ولم أستطع أن أحصل على حقه كوني امرأة وليس لدي أحد، لست راضية عن الذي يقوم به علي لكن ليس باليد حيلة”.
يتحدث السيد يحيى العبد وهو مدير مشروع التعليم والحماية في منظمة بهار: “نستهدف و نستقطب الأطفال المنقطعين عن التعليم و يتم التسجيل من خلال مراكزنا المتواجدة في القرى المستهدفة، نقوم بتعليم وتأهيل الأطفال المنقطعين عن التعليم من خلال التعليم المسرع وتقديم الدعم النفسي لهم ثم إعادتهم إلى المدرسة بالتعاون مع لجنة التربية، نعمل على هذا المشروع منذ بداية عام 2022 في دير الزور من قرية الجزرة إلى بلدة الكسرة، كذلك نعمل في بلدات هجين والسوسة والشعفة، من خلال تغطية الفارق والنقص التعليمي لدى الأطفال المنقطعين عن التعليم والذي يعيقهم من الالتحاق بالمدرسة نساعدهم على العودة إليها دون اللجوء للشارع والبحث عن عملٍ أو سبلٍ اخرى”.
التقينا محمد وهو طفلٌ عمره (14) عاماً يقيم في أحد المخيمات العشوائية في الريف الغربي من دير الزور وهو نازحٌ من قرية (الخريطة)، يقول محمد وهو جالسٌ أمام خيمته وبجانبه أُمه وإخوته الثلاث: “لم أذهب إلى المدرسة أبداً، أبي مفقودٌ منذ بداية الحرب، ليس لدينا هنا أقارب، أُختي الصغيرة مريضة سكر وهي دائماً بحاجةٍ للدواء، أنا وإخوتي بحثنا عن عملٍ لكن لم نجد فبدأنا نطلب المال من الناس في الشارع من أجل دواء أُختي ومعيشتنا، نقوم بذلك منذ زمنٍ طويلٍ لأن أُمي لا تستطيع العمل بسبب إصابةٍ بيدها اليسرى أثناء القصف في بداية الحرب، تعرضت للكثير من الإساءة من بعض الذين أطلب منهم المال، الأطفال يقولون أنني شحاد، عندما يقولون ذلك أشعر بكثيرٍ من الحزن، أنا لم أختر أن أفعل ذلك لكن الظروف هي التي أودت بي إلى هنا، أنظر إلى بقية الأطفال يخرجون من المدارس ويشترون الحلوى لكني أشعر أن هذا ليس من حقي”.
بمقابلةٍ مع ضحى العويص رئيسة مكتب حماية الطفل التابع للجنة المرأة في قطاع دير الزور قالت لنا: “نتابع حالات الأطفال في حال تم تقديم شكوى عن طفلٍ يتم انتهاك حقوقه، نتابع حالات خطف الأطفال بالتنسيق مع لجنة الداخلية والجريمة المنظمة، وحالات الأطفال ذوي الإعاقة نتابعها مع لجنة الشؤون الاجتماعية والعمل لتقديم الدعم اللازم، نتابع أيضاً قضايا الأطفال الذين انتسبوا للقوات العسكرية فنحن بإمكاننا تسريحهم منها وإعادتهم إلى عائلاتهم، إلى الآن لم نتلقى أيّ شكوى بخصوص تسوّل الأطفال لكن إذا استقبلنا شكوى من هذا النوع نتعامل معها حسب طبيعة الشكوى فإذا كان تسوّل الطفل برغبته ورغبة عائلته نتدخل ضمن صلاحياتنا، نقوم بجلسة رفع وعي مع الطفل وعائلته وإذا كان هناك استغلال للطفل من أيّ شخص حتى لو كانت عائلته نقوم بالتدخل ورفع دعوةٍ على الشخص الذي يستغل الطفل للعدالة الاجتماعية أو أيّ جهة معنية ومتابعتها، ليس لدينا إلى الآن أيّ خططٍ واضحةٍ بخصوص الحد من تسوّل الأطفال لكن نعمل على تطوير عمل المكتب والتوسيع من صلاحياته لنحاول ضمان حق أيّ طفلٍ يلجأ لنا”.
تنص المادة 39 من اتفاقية حقوق الطفل: “أن تتخذ الدول الأطراف التدابير المناسبة لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل الذي يقع ضحية أيّ شكلٍ من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة”، كما تركز المادة 32 على حق الطفل في حمايته من الاستغلال الاقتصادي، أما المادة 28 تؤكد على حق الطفل في الحصول على التعليم.
إن سوريا دولة طرف في الاتفاقية وهي ملزمةٌ بها، هؤلاء الأطفال هم ضحايا الحرب والفقر، والمسؤول كافة أطراف النزاع.
يجب العمل بشكلٍ مشترك والتعاون بين كافة الجهات العاملة للحد من هذه الظاهرة ومعالجتها وتأمين بيئةٍ امنةٍ للطفل تكون في منزله ومقاعد المدرسة وليس على أرصفة الشوارع.
بحسب رصدنا الميداني، والمقابلات التي أجريناها مع المنظمات المحلية المختلفة، وجدنا أن المنظمات المحلية بإمكانيات محدودة وأصغر بكثير من احتياجات المجتمع، والأطفال على وجه الخصوص.
تزداد حالات التسول والتسرب المدرسي بشكل كبير كل عام. أخبرنا موظفو المنظمات الذين التقينا بهم بأنهم يبذلون ما بوسعهم، ولكن من الواضح أن سوريا بشكل عام، وشمال شرقها على وجه الخصوص بحاجة لخطة متكاملة للتغلب على ظاهرة تسول الأطفال وأسبابها، وإعادة الأطفال إلى مدارسهم وبيوتهم الآمنة.