تواجه سوريا في مرحلة ما بعد الحرب تحديات سياسية وأمنية واقتصادية معقدة تعيق جهود إعادة بناء الدولة وضمان استقرارها. ومن أبرز القضايا العالقة في المشهد السوري الحالي وأكثرها إلحاحًا، هي المفاوضات الجارية بين الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، الممثلة بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحكومة دمشق الجديدة بقيادة (أحمد الشرع). إذ تمثل هذه المفاوضات اختبارًا حاسمًا لمستقبل البلاد، حيث تسيطر الإدارة الذاتية على مساحة تعادل ربع مساحة سوريا، بما فيها من تنوع عرقي/ ديني، وثروات باطنية وزراعية ومائية، إضافة إلى أنها حدودية مع تركيا والعراق.
وتتمحور مطالب الإدارة الذاتية، بخطوطها العريضة المُعلنة، حول الاعتراف بها ككيان سياسي ضمن سوريا موحدة، وتطبيق نموذج حكم لامركزي موسّع يتيح لها إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، مع ضمان حصة من الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز. كما تطالب بدمج قوات (قسد) ضمن الجيش السوري مع الحفاظ على هيكليتها المستقلة ودورها الأمني المحلي. في المقابل، ترفض حكومة دمشق هذه المطالب، مؤكدة أن أي شكل من أشكال الحكم الذاتي يشكل تهديداً لوحدة الدولة، وتصر على دمج قسد تحت قيادة وزارة الدفاع بشكل كامل بعد إخراج مقاتلي حزب العمال (PKK) الأجانب، مع السيطرة المركزية على جميع الموارد الوطنية.
وبالرغم من الالتزام المُعلن من الطرفين بمسار التفاوض السلمي، والمناخ الإيجابي لهذا المسار حتى الآن، إلا أن هذه المفاوضات لا تحدث بمعزل عن السياق الداخلي والإقليمي المعقد. فعلى المستوى الداخلي، تواجه الإدارة الذاتية تحديات متزايدة في كسب تأييد السكان المحليين في المناطق ذات الأغلبية العربية في الرقة ودير الزور والحسكة، والتي شهدت احتجاجات شعبية منذ سقوط النظام تدعم الإدارة السورية الجديدة، وتطالب بخروج قوات (قسد)، وصولاً إلى التظاهر في دمشق لمطالبة إدارة (الشرع) ببسط سيطرتها على تلك المحافظات بالكامل.
ولا يقتصر الأمر على المناطق العربية فحسب، فداخل الشارع الكردي هناك انقسام في الموقف السياسي حول التفاوض وتفرد الإدارة الذاتية به. وهو ما يعكسه موقف المجلس الوطني الكردي وأحزابه، التي تطالب بتشكيل وفد كردي موحد يفاوض دمشق على مطالب كردية، وهو أمر يدعمه موقف حكومة (كردستان العراق)، والولايات المتحدة وفرنسا الذين يرعون مساراً تفاوضياً موازياً بين المجلس الوطني والإدارة الذاتية.
أما على المستوى الإقليمي، تواجه الإدارة الذاتية ضغوطاً عسكرية وسياسية من تركيا التي تعتبر قوات )قسد( امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وموقف متشدد من الأخير يحدد شروط انسحاب عناصره من سوريا بحصول (قسد) على دور قيادي في سوريا. يُضاف إلى ذلك الضغوط الناتجة عن التحولات السياسية الإقليمية والدولية المرتبطة بالانفتاح والتقارب مع الإدارة السورية الجديدة، والذي قد يترجم مع الوقت لدعم موقفها التفاوضي مع (قسد). وبينما تعتمد الإدارة الذاتية بشكل أساسي على دعم الولايات المتحدة وحماية قواتها المتواجدة في سوريا، فإن هذا الدعم يظل عرضة للتغير بناءً على موقف إدارة ترامب في واشنطن، مما يضع الإدارة أمام تحديات إضافية تتعلق باستقرار موقفها التفاوضي.
وفي ضوء تلك التحديات المتعلقة بمستقبل مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، وتركيز غالبية التحليلات على المغيرات الإقليمية والدولية المؤثرة في المسار التفاوضي بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق الجديدة. تهدف هذه الورقة إلى التركيز على الديناميكيات الداخلية المؤثرة في هذا المسار، ودراسة رؤى المكونات المحلية في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية تجاه مطالبها السياسية وموقفها التفاوضي مع دمشق.
كما تسعى إلى تقييم مدى قبول هذه المكونات للإدارة الذاتية كنظام حكم يعبر عن تطلعاتهم، مع تسليط الضوء على رؤيتهم لنظام اللامركزية، ودور قوات قسد، والعدالة في توزيع الموارد، وصولاً إلى تقديم منظور شامل للتحديات الداخلية التي تواجه مستقبل التفاوض بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية.
لقراءة الورقة كاملة تمثيل شمال شرق سوريا في الانتقال السياسي