في أي لحظة تاريخية انعطافية في حياة شعب ما، تهتز الكثير من المفاهيم، فيتم إقصاء بعضها وتبني أخرى، فيما تنشأ مفاهيم أخرى جديدة تناسب الواقع الجديد، وكذلك هي أولويات التفكير والخطاب المعرفي.
في آذار 2011 بدأت عملية تغييرٍ، فرضت الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمع السوري، على من أشعل فتيلها، وسار في ركبها، أن تكون عملية تغيير شاملة, معرفياً وعقلياً وثقافياً وتكنولوجياً ومجتمعياً، وألا يكون هذا التغيير سياسياً فقط، لكن الطبيعة الاستبدادية الخاصة لنظام الحكم في سوريا، وضيق أفق مسؤولي الحكومة السورية وعدم قراءتهم اجتماعياً لهذا الحراك السياسي –تمت قراءة هذا الحراك أمنياً فقط- أفضى بهم إلى اتخاذ أكثر الطرق عنفاً بحق الشعب السوري.
ولأجل توصيل المعاناة السورية للمجتمع الدولي كان يجب مخاطبته بمعاييره التي يكون صداها مسموعاً في أوساطه، ويتطلب ذلك إنتاج خطاب حقوقي وقانوني يساند المواطن السوري في معاناته، وألا يأخذ هذا الخطاب مساراً أحادياً وضيقاً من المعادلة التصارعية، إنما يأخذ أكثر من مسار ليستطيع الحكم بموضوعية ودقة على سير الأحداث.
من الواضح أن العالم لن يأتي إلينا، لذا كان علينا أن نلحق به وبأدواته حتى نوصل إليه رسائلنا، فالغاية السامية الأولى والأخيرة من تبني هذا الخطاب وهذه المفردات في المرصد هي إيصال صوت أهلنا للمنابر الدولية التي من شأنها أن تقوم بالعمل الإنساني أو الضغط على الحكومة السورية لتغيير سياستها بحق الإنسان السوري. فالمعترضين على معايير المرصد من خلال ابدال كلمة بكلمة أخرى مثل: داعش بتنظيم الدولة أو النظام الأسدي بالقوات الحكومية أو النظامية أو الجيش الحر بالفصائل المسلحة، أو الشهداء بالقتلى والضحايا عليهم التفكير جدياً في خطابهم بعد سنون الثورة العجاف، كي لا يكون صوتاً في فراغ. لا سيما أن كثيراً من التقارير الحقوقية التي أعدتها مؤسسات حقوقية سورية لم تخاطب العالم بمفرداته، تم الطعن بها في المحافل الدولية من قِبل الدول العظمى الداعمة للنظام السوري وعلى رأسهم روسيا الاتحادية والصين.
إن إصرار مرصد العدالة في ايصال صوت المحافظة إلى المجتمع الدولي فرض عليه أن يكون مرناً في الأخذ بطرق تفكير ومعايير جديدة ومغايرة لتلك المتجذرة في النفوس والعقول، والتغيير ليس عيباً إذا كان المقصود هو تحقيق الهدف المنشود، لا بل يصبح التغيير واجباً وضرورة. فاسم الماء لن يغير من جوهره ومظهره وخواصه في حال تم تسميته بالمصطلح العلمي H2O، وهكذا هي المصطلحات الحقوقية والقانونية.
كذلك فإن ناشطي المرصد ليسوا من كوكب آخر إنما هم من أبناء هذه المحافظة، إضافة إلى أن نشاطهم كان واضحاً في الثورة السورية منذ انطلاقتها، وماجرى على سكان المحافظة جرى عليهم من تهجير وملاحقة وقمع، فيما الخطر في اللحظة الراهنة محدق بهم بسبب عملهم الحقوقي والقانوني.
إن أحد أهم أسباب تشكيل مرصد العدالة من أجل الحياة في ديرالزور هو التعبير عن معاناة الإنسان السوري في هذه المحافظة المنسية حقوقياً وقانونياً وإعلامياً، فكان المرصد استجابة سريعة لحاجة ضرورية غير مُلباة من قوى الثورة. إن المرصد هو منظمة حقوقية تعنى بالعمل التوثيقي الحقوقي الإنساني وهو ليس عملاً انفعالياً أو عاطفياً إنما هو عمل مؤسساتي عقلاني وجماعي لا فردي، فالتوثيق يلزمه الكثير من الأدلة والتحقق من هذه الأدلة، إنه عمل يصنف تحت شجرة العدالة لذا يجب أن يكون عادلاً ولا يظلم أحداً، كما أنه ليس حزباً أو تجمعاً سياسياً.
إن عملية التوثيق التي يقوم بها المرصد هي عملية معقدة وصعبة للغاية ويلزمها الكثير من الآناة والصبر، فهي تمر بعدة مراحل قبل أن تأخذ شكلها القانوني والحقوقي الذي نأمل أن يجد آذاناً صاغية لدى كل الفاعلين في القضية السورية. فمن تحديد هوية البيانات إلى التبويب ثم الجمع والتثبيت والأرشفة وجمع الأدلة. كلها خطوات تأخذ من الوقت والجهد الكثير الكثير. بعد ذلك – وهذا ما نؤمن به- سيذهب كل هذا العمل المضني إلى محاكم العدالة الانتقالية، والسير في طريق الاقتصاص من المجرمين الذين قاموا بانتهاكات إنسانية بحق المواطن السوري. من ناحية أخرى فأن عمل المرصد تحكمه مبادئ حقوقية وأخلاقية وأمنية فعلى سبيل المثال لا الحصرعند وجود انتهاك ما فان المرصد يقوم بواجبه الحقوقي الكامل، وعندما لا يتم ذكر أسماء الضحايا فانه بذلك يفكر بطريقة أخلاقية وأمنية حتى لا يتم الإضرار بكل ذي صلة بالضحية.
عمل المرصد الأساسي والوحيد هو الدفاع عن الحقوق الأساسية للإنسان السوري كحق التعبير وحق الحياة والعيش وحق التنقل. والاستبسال في الدفاع عن هذه الحقوق من جانب المرصد هو الثورة.
مرصد العدالة لأجل الحياة في ديرالزور