أتذكرُ جيداً أنني منذ تشكل وعيي في الطفولة، كنتُ أعلم أن ابن عم أمي اختفى، ولا أحد يعلم عنه شيئاً. كلُّ ما أعرفه أنه كان يقوم بأداء الخدمة العسكرية على نقطة حدودية مع العراق، وأنه لم يعد إلى زوجته وابنه وابنتيه، الذين عاشوا في مدينة الميادين، وكبروا بجهود الأم واحتضان العائلة، وأعلمُ أن جميعَ جهود البحث عنه باءت بالفشل.
مَرَّت سنواتٌ طويلة، وصارَ غيابه فيها أمراً مركوناً في زوايا الذاكرة، وفي ضمائر العائلة التي تنتظر بقهرٍ وصمت. وبعد ستة عشر عاماً، طرق باب مكتب أبي في المزة معتقلٌ خرجَ من سجن صيدنايا، ليُخبِرَ من فتح له الباب، أن ابن العم قد نُقِلَ حديثاً إلى صيدنايا بعد أن قضى السنوات الماضية في سجن تدمر، وأنه تعرَّف إلى عنوان المكتب من خلال شارة أحد المسلسلات التي أخرجها والدي هيثم حقي، وطَلَب من المعتقل المُطلَق سراحه أن يمرَّ لإخبارنا بوجوده.
قلَب الخبر كيان العائلة، فالرجل الذي كان في عداد المفقودين عاد، أو بالأحرى بُعِثَ ثانيةً إلى الحياة، وبعد عامٍ كامل، خرج الرجل من السجن، محطماً، وروى قصة لم تفارقني منذ ذلك اليوم، وظلَّت تلاحقني في أحلامي. بعد أن قضى في سجن تدمر كل تلك السنوات نُقِل إلى صيدنايا، فقامَ أحد النزلاء في السجن، الذي يُعَدُّ منتزهاً مُرَّفهاً بالمقارنة، بتقديم كأسٍ من الشاي لابن العم، الذي نظر في الكأس فرأى صورة وجهه للمرة الأولى منذ ستة عشر عاماً، فَصُعِقَ لشكله الجديد، إذ لم تستطع ذاكرته التأقلم مع السنوات التي مرَّت وهو في سجن تدمر الرهيب.
عاد الرجل المولود من جديد إلى مدينة الميادين، ليعيش مع زوجته وأبنائه، الذين كانوا لا يعرفونه، ورغم السعادة الغامرة بعودته، إلا أن الحياة اليومية بوجود أبٍ عائدٍ لم تكن سهلة. لا سيما على الابن الذي كان على أبواب الدخول إلى الجامعة، والذي بحكم الظرف قد تحول باكراً إلى رجل العائلة، هذا الشاب هو فريد الرحبي، الذي لم تجمعني به إلا معرفةٌ عابرةٌ أتذكرها بشكلٍ غائم، عن شابٍ خجول، مبتسمٍ دوماً.
اندلعت الثورة، وعادت صلتي بشباب العائلة لتتمكن، بعد أن ابتعد عالمي عن عالمهم في السنوات الأخيرة، جاء موقفنا المشترك من الثورة ليعلمنا أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما فرقنا، جمعنا العالم الافتراضي، وكان فريد من أكثر الشباب نشاطاً واندفاعاً وحرارة، ومن أعمقهم إيماناً بسوريا العدل والكرامة والحرية التي تتسع للجميع.
آمن فريد بالعمل السلمي، وخارج عمله بالإغاثة، نظَّم أمسياتٍ للتعريف بحقوق الإنسان ومفاهيم العدالة والديمقراطية، وحَلُمَ بتأسيس فرقةٍ مسرحية في الميادين المحررة.
وصلت داعش إلى المدينة، وبدأ فريد يكتب تصريحاً ثم تلميحاً عن اختناق المدينة، ولكنه رَفَضَ مع ذلك، كل التعليقات اليائسة، وكان يشد من أزرِ الجميع، وكأنه يرى سوريا الغد أمام عينيه.
غابت أخبار فريد، وظننت أنه لم يعد لديه ما يقوله لذا لم يعد يكتب على الفيسبوك، وفي يوم الثاني والعشرين من تموز، طالعتني صورة فريد وابتسامته على وجهه، على صفحة خالي، مرفقةً بنعي.
صعقني الخبر، لم أصدق، بدأت أتصل بمن أستطيع لتبين التفاصيل، لاكتشف أن لا تفاصيل، الخبر هو فقط بكل ألمه ولا عدالته: داعش أعدمت فريد!
توالت في الأيام التالية أخبارٌ أخرى، رفضت داعش تسليم الجثمان لأهله ومنعتهم من إقامة عزاء لأن ابنهم أُعدم بتهمة التخابر مع الائتلاف والردة، وهو الشاب المؤمن الصادق النزيه.
ومنذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع منع مخيلتي من التفكير بتلك الأم، أم فريد، التي لا أجدها تشبه شيئًا إلا سوريا مصغرة، سوريا هي تلك الزوجة التي انتظرت سنواتٍ طويلة عودة رجلٍ لم يعد كما خرج، وهي تلك الأم الثكلى التي حُرِمَت من وداع ابنها ومن البكاء بصوتٍ عال، ومن النحيب. وهي تلك التي حملت في قلبها حلم الزوج والابن بغدٍ عادل، مشرقٍ حرّ، يعوض ما مضى من آلام. أفكر فيها وأتخيل، ترى ما هي العدالة من وجهة نظرها؟ ما الذي ينصف قلبها المكسور والمثقل؟ كيف ستستطيع أن تنسى وتغفر وأن تحب؟ كيف؟
خيلتي من التفكير بتلك الأم، أم فريد، التي لا أجدها تشبه شيئًا إلا سوريا مصغرة، سوريا هي تلك الزوجة التي انتظرت سنواتٍ طويلة عودة رجلٍ لم يعد كما خرج، وهي تلك الأم الثكلى التي حُرِمَت من وداع ابنها ومن البكاء بصوتٍ عال، ومن النحيب. وهي تلك التي حملت في قلبها حلم الزوج والابن بغدٍ عادل، مشرقٍ حرّ، يعوض ما مضى من آلام. أفكر فيها وأتخيل، ترى ما هي العدالة من وجهة نظرها؟ ما الذي ينصف قلبها المكسور والمثقل؟ كيف ستستطيع أن تنسى وتغفر وأن تحب؟ كيف؟