بلال سليطين
AM 01:19 2015-07-06
تقف الطائرة الحكومية حائلاً دون موت عشرات الآلاف جوعاً في مدينة دير الزور شرق سوريا، بعد أن أطبق تنظيم «داعش» حصاره على المدينة، ومنع عنها الطعام والشراب منذ أشهر.
هذه الطائرة، التي تقول المصادر الحكومية السورية إنها تعمل فوق طاقتها من أجل تأمين احتياجات هؤلاء المواطنين، مهدّدة بشكل يومي، نظراً لحجم العمل الذي تقوم به وإمكانية إصابتها بعطل فني، وأيضاً من جراء محاولات استهدافها بشكل دائم من قبل «داعش»، حيث لا يوفر التنظيم فرصة لاستهداف كل كائن يقترب من مدينة دير الزور، دخولاً أو خروجاً، براً أو جواً.
الطائرة هي جزء من منظومة متكاملة تشكل شريان حياة دير الزور، من ضمنها القوات المسلحة المدافعة عن المدينة وكذلك المطار الذي يشكل نقطة العبور وصمام الأمان، المطار الذي لا ينفك «داعش» يشن هجماته عليه من أجل احتلاله أو إيقافه عن العمل.
ووفقاً للإحصائيات فإن التنظيم حاول أكثر من تسع مرات السيطرة على المطار، لكن محاولاته باءت بالفشل، الأمر الذي منح المدنيين جرعة من التفاؤل والثقة بأنهم في مأمن نسبياً من الناحية الجوية التي تمثل شريان الحياة الوحيد للمدينة. ويقول ضابط ميداني إن «المطار يلعب دوراً إنسانياً أكثر منه عسكرياً، واستهدافه ليس إلا استهدافاً لكل طفل وامرأة وشيخ في دير الزور».
ويقول أحد العسكريين، العاملين على الطائرة التي تنقل الاحتياجات إلى دير الزور يومياً، إن «الطائرة تشكل ما يمكن وصفه بالجسر الجوي لإنقاذ حياة المدنيين، حيث تنقل لهم الطعام والدواء والكساء ومختلف الاحتياجات، وفي المقابل تنقل المرضى إلى دمشق لتلقي العلاج».
ويضيف «في كل رحلة أسافر فيها على متن الطائرة أشعر أنني أنقل ترياق الحياة، أحياناً تضطرنا الظروف الجوية والتقنية والأمنية إلى التأخر لبعض الوقت، الأمر الذي يسبب لنا شعوراً بالألم. في كل لحظة تأخير أتخيّل طفلاً قد يموت من الجوع، أتخيل مدينة تجوَّع، وعليَّ إطعامها فوراً، لكنني مجبر على الانتظار حتى تصبح الرحلة آمنة. إنه شعور قاس ومؤلم. صحيح أنني لا أعرف أحداً هناك، ولا ألتقي الأهالي، إلا أنني أشعر بهم وبوجعهم وأفكر بهم وكأنهم عائلتي، فقد نشأت علاقة قوية بيني وبينهم، فهم ينتظرون وصولي والطائرة بفارغ الصبر، وأنا أنتظر نجاح مهمتي في إيصال المساعدات لهم».
هذه الطائرة على أهمية دورها غير قادرة على تأمين كل الاحتياجات، وإن كانت تؤمن جزءاً لا يستهان به، ويبقى الكثير من الاحتياجات غير المؤمنة والتي باتت مفقودة في مدينة الفرات. كما أن الطائرة لا تستطيع كبح جماح الارتفاع الجنوني في الأسعار والذي سجل مستوياتٍ قياسية. وقد انتشرت محادثة مؤلمة جداً على مواقع التواصل الاجتماعي حول الواقع المعيشي في دير الزور يشير مضمونها إلى أن عائلة طبخت العدس وأكلته كوجبة غداء وحيدة، وهو الذي اعتاد السوريون وأهالي الدير خصوصاً أن يكون مكملاً لمائدتهم بما أنهم مجتمع زراعي ومحافظتهم غنية بالخيرات.
يقول علاء، وهو مواطن من دير الزور يقيم في دمشق، استقبل قبل أيام أقرباء له قادمين من الدير، «عندما رأيتهم كدت لا أعرفهم، أشكالهم وحدها تشير إلى المجاعة التي يتعرّضون لها، كادت معدهم تختفي، وكأنهم لم يأكلوا منذ أشهر».
ويؤكد مواطنون من دير الزور لـ «السفير» أن فئة المئة ليرة لم تعُد مستخدمة في المحافظة المحاصرة إلا في شراء الخبز، أما باقي المواد فكلها تعدّى ثمنها الألف ليرة، حيث وصل سعر كيلو السكر إلى 1600 ليرة سورية، أكثر من خمسة دولارات، والرز 1200 ليرة، واللحمة 4500 ليرة، وربطة الخبز 300 ليرة، أي أن الأسعار هناك مرتفعة أكثر من خمسة أضعاف عن باقي المحافظات، كدمشق مثلاً.
هذه الأسعار المرتفعة تقابلها أسعار منخفضة على بعد أمتار فقط، أي على الضفة الأخرى من نهر الفرات، حيث يسيطر «داعش». يقول رضوان، وهو ربّ أسرة من أربعة أطفال، لـ «السفير»، إنه يسمع المسلحين على الضفة الأخرى يصيحون عبر مكبرات الصوت أن سعر البندورة 100 ليرة بينما سعره هنا ألف ليرة في ثاني أيام رمضان. ويضيف «إنهم يتقصدون أن يسمعونا أصواتهم تنادي لبيع مواد شحيحة لدينا، وبأسعار زهيدة لكي يقوموا بقهرنا، وفي الوقت ذاته لا يسمحون لنا بإدخال هذه المواد، أو حتى الذهاب لشرائها والعودة».
ويتحدّث أهالي الدير عن رجل حاول اجتياز النهر عبر «دولاب هواء» لكي يحضر طعاماً لابنته الجائعة، فما كان منهم إلا أن أطلقوا الرصاص عليه وقتلوه في الماء، وبقيت جثته فيها ولم تُنتَشل، وباتت عائلته الآن من دون معيل.
رجال دين كثر كانوا ناشدوا مع بداية رمضان فك الحصار المفروض على دير الزور وأهلها، من 20 كانون الثاني الماضي، في حين يصوم الأهالي على الخبز ويفطرون عليه. وطالب الشيخ محمد التوفيق، وهو إمام وخطيب مسجد، أن يتوجّه الناس بالدعاء لأهل الدير الذين وصفهم بالمكروبين.
المعاناة لا تتوقف على الطعام والشراب، فهي تشمل كل نواحي الحياة، خصوصاً الجانب الطبي، حيث يذوق المرضى الأمرين من الحصار، وتسعى اللجنة الأمنية في دير الزور لتقديم التسهيلات لهم عبر نقلهم بالطائرة إلى دمشق. وتقول هند إنها عانت كثيراً من الحصار، الذي تسبّب باستحالة سفرها براً لغسيل كليتها، وكانت على وشك فقدان حياتها، إلى أن تكفل الجيش السوري بنقلها عبر الطائرة العسكرية إلى دمشق لكي تتلقى العلاج هناك. وتضيف «لو بقيت في الدير لكنت الآن ميتة».
وترى هند أن الحصار المفروض على الدير لا يمكن التخلص منه إلا بسواعد أبناء المدينة، الذين تقول إن عليهم القتال بكل ما أوتوا من قوة مع الجيش السوري لكي يفكوا الحصار، وإلا فإن الأهالي سيموتون جوعاً. وتضيف «الوضع في دير الزور أكبر من أن يوصف، ولا سبيل لأبنائنا إلا أن يقاتلوا لفك الحصار الذي فرضه هذا التنظيم الذي لا يعرف الرحمة».
أهالي دير الزور استبشروا خيراً مع بداية الشهر الفضيل من خلال تزويدهم بالطاقة الكهربائية للمرة الأولى منذ آذار الماضي، حيث تمكّنت الدولة من إعادة تشغيل منشأة كانت مصنعة في العام 1977 وتجهيزها لتوليد التيار الكهربائي إلى الأحياء المحاصرة في الدير، وقد أعلن عن تشغيل المولد الكهربائي عبر صفحة العميد عصام زهر الدين الذي أردف الخبر بعبارة «الحرس الجمهوري للحرب والإعمار» في إشارة منه إلى جهود الجيش السوري في إعادة المنشأة للعمل.
وفي وقت يصوم فيه أهالي الدير في المناطق المحاصرة ليل نهار، ينعم «داعش» ومقاتلوه بخيرات المحافظة ومياه الفرات الذي دفع الديريون من دمائهم لتشييد سدّه وسقاية أراضيهم التي لم تبخل يوماً عليهم وجعلتهم مكتفين مساعدين لا محتاجين.