تعيش المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بنسب متفاوتة حالة من الفوضى الأمنية. تتجلى هذه الفوضى بشكل رئيسي في الاستخدام العشوائي للسلاح، ولا سيما في المناسبات الاجتماعية، وازدياد حدة ووتيرة الاقتتالات العائلية والعشائرية. بالإضافة إلى انتشار العصابات المسلحة التي تمارس عمليات السلب تحت تهديد السلاح، واستمرار نشاط خلايا تنظيم الدولة.
وفي حين يمكن اعتبار أن تلك الفوضى الأمنية كظاهرة، فهي نتاج مجموعة من الأسباب منها ما يرتبط بطبيعة المنطقة وما مرت به خلال السنوات الماضية من صراعات وجهات سيطرة، ووجود عدة أطراف بمصالح متضاربة داخلها وعلى حدودها، وطبيعة السلطة القائمة المتمثلة بالإدارة الذاتية ونموذجها الحوكمي والأمني، والتركيب الاجتماعي (العشائري) للسكان.
إلا أن العامل الحاسم المتحكم بمعدل تفاقم تلك الظاهرة وزيادة خطورة نتائجها المتمثلة بمئات الضحايا من المدنيين سنوياً، هو انتشار السلاح وسهولة الحصول عليه في المنطقة عموماً، وفي مناطق دير الزور الخاضعة لسلطة الإدارة الذاتية خصوصاً. حيث تستحوذ تلك المناطق على المعدل الأعلى للضحايا نتيجة الفوضى الأمنية وانتشار السلاح على أساس سنوي، وتشير تقارير الرصد الحقوقي إلى أن أعداد الضحايا في دير الزور تتزايد من سنة إلى أخرى، مما يشير إلى عدم وجود جهد حقيقي من قبل الإدارة الذاتية لمكافحتها أو الحد منها، على الرغم من مطالبة وجهاء المنطقة في العام 2021 بإصدار قوانين صارمة للحد من ظاهرة حمل السلاح غير المرخص بين السكان، على اعتبارها تمثل تهديداً للسلم المجتمعي.
ومن خلال تقارير الرصد الشهرية التي أعدتها (منظمة العدالة من أجل الحياة) في العام 2022، يتبين أن متوسط أعداد ضحايا الاستخدام العشوائي للسلاح كان ما يقارب عشرة مدنيين شهرياً، معظمهم من النساء والأطفال. كما تُظهر إحصاءات (المرصد السوري لحقوق الإنسان) للعام 2023 وقوع 84 جريمة قتل بدوافع متعددة منها السرقة، 33 من تلك الجرائم كانت في دير الزور، إضافة إلى 125 اقتتال عائلي وعشائري، منها 87 في دير الزور، كما شن تنظيم الدولة خلال نفس العام 165 هجوماً، منها 125 في دير الزور.
وإن كانت الأرقام السابقة تعكس حجم الفوضى الأمنية في دير الزور قياساً بباقي مناطق الإدارة الذاتية، فإنها أيضاً تعكس حجم الانتشار الكبير للسلاح واستخدامه بشكل غير منضبط فيها، وهو أمر تتفوق فيه أيضاً مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية عن سواها. ويمكن إعادة انتشار السلاح في دير الزور إلى عاملين رئيسيين، وهما: تراكم السلاح الناجم عن سياق الأحداث التي شهدتها دير الزور منذ اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011، وموقعها الجغرافي على الحدود السورية العراقية الذي سهل تدفق الأسلحة في فترات سابقة، ووجود فاصل نهري ضيق بين مناطق سيطرة الإدارة الذاتية ومناطق سيطرة الحكومة السورية والميليشيات الإيرانية، مما يسهل عمليات التهريب، ولا سيّما السلاح مع وجود تواطؤ من قبل طرفي السيطرة على ضفتي النهر.
أدى توفر الأسلحة إلى انخفاض نسبي في أسعارها، مما يجعلها في متناول غالبية سكان المنطقة، وبالتالي ازداد الطلب عليها بحكم الظروف الأمنية التي تعيشها دير الزور، وتراجع دور السلطة القائمة في حفظ الأمن. إذ تشير التقارير الصحفية التي رصدت أسعار السلاح الخفيف والمتوسط في دير الزور إلى أن سعر بندقية (الكلاشينكوف) يتراوح بين 200- 1500 دولار، أما رشاش (بي كي سي) ويصنف سلاح متوسط فسعره يتراوح بين 1500- 3000 دولار، أما متوسط تكلفة مخزن الرصاص قد تصل إلى 210 آلاف ليرة سورية.
بلغت ظاهرة انتشار السلاح بين المدنيين ذروتها في دير الزور خلال المواجهات التي شهدتها المنطقة في أغسطس/ آب2023 بين مسلحين من عشائر المنطقة وقوات (قسد)، الأمر الذي أدى إلى حملة أمنية شنتها الأخيرة تم خلالها مصادرة كميات من الأسلحة والذخائر، وبالتالي تراجعت ظاهرة حمل السلاح في الأماكن العامة واستخدامه بشكل غير منضبط في المناسبات الاجتماعية، ولكنها ما لبثت أن عادت مع نهاية الحملة، لتستمر تلك المشكلة بتهديد أمن وسلامة الأهالي دون حلول مستدامة وفعالة. إذ تشير التقارير إلى وقوع خمسة اقتتالات عشائرية ذهب ضحيتها قتيلان في دير الزور خلال شهر شباط من العام 2024.
وعليه تسعى هذه الورقة إلى تقدير حجم السلاح المنتشر بين المدنيين في مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، وأبرز مصادره، والتعرف على أوجه استخدامه غير المنضبطة، وآثارها على السلم الأهلي والتنمية. والبحث في دوافع المدنيين لاقتناء السلاح على المستويين الثقافي والأمني. إضافة إلى استعراض تجارب المنطقة مع عمليات جمع السلاح خلال السنوات الماضية على يد السلطات التي تعاقبت عليها، وصولاً إلى تقديم توصيات واقعية مستمدة من المجتمعين المحلي والمدني في المنطقة تتضمن حلولاً لظاهرة انتشار السلاح وتتوافق مع طبيعة المنطقة الثقافية والأمنية.
لقراءة الورقة كاملة: ظاهرة انتشار السلاح