يمنى الخلف – دير الزور
التزويج المبكر، تزويج القاصرات، زواج الاطفال هي مسميات متعدّدة لآفة مجتمعيّة موروثة في المجتمع السوري، وتشهد هذه الظاهرة تزايداً كبيراً في محافظة دير الزور ريفاً بسبب ظروف الحرب التي عانت منها المحافظة على مدى أكثر م ومدينة ن (9) سنوات، فالأوضاع والظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها السكان، إضافة إلى قلّة الاهتمام بعواقب ومخاطر هذا الزواج وعدم إدراك تبعاته، والاعتقاد السائد لدى العديد من الأُسر الذين يؤيّدون هذا الزواج بأنّه حماية لبناتهنّ في ظل الأوضاع الأمنيّة غير المستقرّة، كل ماسبق أمورٌ تؤدي إلى ارتفاع نسبة تزويج القاصرات وتدفع باتجاهه، دون النظر إلى الآثار السلبيّة التي تتبع مثل هذه الزيجات بسبب عدم النضوج العقلي والجسدي للفتيات وعدم إدراكهن للمعنى الحقيقي للزواج وما يتبعه من أعباء ومسؤوليات جسام.
تعرّف منظمة الأمم المتحدة للطفولة UNICEF زواج الأطفال “أي زواج رسمي أو أي ارتباط غير رسمي بين طفل تحت سن (18) عاماً وشخص بالغ أو طفل آخر”[1].
“التزويج المبكّر يحفظ من العار”
الفتاة آلاء (اسم مستعار)[2] مقيمة في قرية الحصان في ريف ديرالزور الغربي، أجبرت على الزواج وهي في عمر (13) عاما من شاب في الثلاثين من عمره ،يكبرها ب(17) عاماً، تقول آلاء:”كنت صغيرة انتظر طلوع الشمس للذهاب إلى المدرسة لكي ألعب مع صديقاتي ،ثم أعود للمنزل لكي أشاهد الرسوم المتحركة، لم أكن ادرك شيئآ عن الزواج ولم أتوقع بأنني سأتزوج في مثل هذا العمر، إلّا أن خوف أهلي من أن أجلب لهم العار بسبب ظروف الحرب دفعهم إلى ظلمي بهذه الطريقة، وفي نفس الوقت لم يكن لي الحق في اتخاذ قراري بنفسي”.
تتابع آلاء “الآن أنا أم لطفلين ولازلت في عمر الطفولة، لكن زواجي هذا أعطاني درساً لا يُنسى مدى الحياة بأن أقف إلى جانب ابنتي لكي تكمل تعليمها، ولن ارتكب معها نفس الذنب الذي ارتكبه أهلي بحقي من أجل اتباع عادات وتقاليد بالية”.
لا يختلف حال ليلى (اسم مستعار)[3] كثيراً عن آلاء، ليلى (23) عاماً أرملة وأم لثلاثة أطفال، تعيش في قرية محيميدة في ريف ديرالزور الغربي، تتحدث عن رحلة زواجها الذي أدى إلى ضياع عمرها بالكامل على حد قولها. تقول ليلى:”كنت في (14) من عمري؛ أعيش وسط عائلتي مع أخوتي وأذهب إلى مدرستي وأنا بداخلي أحلام كثيرة لكي أصل إلى المرحلة الجامعيّة حين قرر أهلي تزويجي بالإجبار من ابن عمي من أجل وعود أعطاها أبي لعمي بأن أكون زوجة لابنه”.
تتوقف ليلى عن الكلام قليلاً بسبب الدموع التي ملأت عينيها تم تتابع قائلة: “في أول يوم من الزواج كنت خائفة جداً من ابن عمي؛ ولم أسمح له بالاقتراب مني حتى انهال عليّ ضربآ وبدأت بالصراخ والبكاء وأخذني بالقوة، وأدى ذلك إلى آثار جسديّة ونفسيّة كبيرة وأجبرت على العيش معه بالإكراه، حالي كحال الكثير من الفتيات في منطقتي”.
وتكمل ليلى “تتابعت علينا السنين وأنجبت منه ثلاث أطفال، وبسبب سوء أحوالنا المعيشيّة قرر أن يهاجر إلى أوروبا ويبيع بيتنا ثمناً لرحلته، على أمل أن يرسل إلينا أنا وأطفاله لنلحق به، إلّا أنّ خبر غرقه في البحر مع رفاقه كان أسرع لنا من الحياة الجميلة التي كنا نحلم بها، عدتُ مع أطفالي للعيش مع أهلي وتحت سطوة اخوتي الذكور.”
التزويج المبكر مقابل المال:
تقول فاطمة (اسم مستعار)[4] (17) عاماً من قرية الحصان في ريف ديرالزور الغربي:”كان يتردّد إلى منزلنا تاجر شاب في الثلاثين من عمره من محافظة حلب، كان يبحث في ذلك الوقت عن فتاة للزواج، الأمر الذي دفع أخي أن يعرض عليه تزويجه مني، وبدأ أخي بإقناعي بالزواج منه والحديث عن وضعه المادي وأنني سأعيش معه اياماً جميلة على حد قوله، فما كان مني إلاّ ان وافقت على الزواج للتخلص من الأوضاع الاقتصاديّة السيّئة التي كنا نعيشها”.
تتابع فاطمة “تم زواجنا بشكل سري وبدون عقد رسمي في المحكمة، بعد الاتفاق على مهرٍ عالٍ ، ووضعت شرطاً ان أعيش بالقرب من أهلي فوافق على ذلك دون تردد، وقام باستئجار منزل لنا، وعشت معه شهرين فقط، إلى أن قرّر الذهاب إلى مدينة حلب لرؤية أهله دون أن يعرض علي مرافقته، وبعد مدة أسبوع اتصل بي ليقول بأنّه لن يعود إلى دير الزور وبأنّه متزوج ويحب زوجته وأولاده، وطلقني على الهاتف”
مضى على طلاق فاطمة عامين ولم يتقدم لها سوى رجال متزوجين على حد قولها وتكمل “إنّ طمع أهلي بالمال دون أن السؤال عن ذلك الرجل كان سبباً في دمار مستقبلي ونهاية حياتي حيث أصبحت حياتي بلا معنى الآن”.
التزويج المبكر متعارف عليه:
“ياجايب البنات ياحامل الهم للممات” بهذا المثل الشعبي الشهير في مدينة دير الزور بدأ السيّد حسن(اسم مستعار)[5] لقاءهُ مع كاتبة المقال، وهو أب لخمس بنات يعتبرهن “همّ الحياة” على حد قوله، بتنهيدة طويلة يتايع حديثه “لدي خمس بنات ستر الله على ثلاثة منهن وبقي لدي همّان في البيت، ما إن تصبح ابنتي في الرابعة عشر من عمرها أقوم بتزويجها وأخلص من همها”.
يوضح حسن أسبابه في تزويج بناته بعمر صغير قائلاً: “ظروف الحرب أجبرتنا على أشياء كثيرة وخاصة خلال فترة سيطرة تنظيم الدولة على ديرالزور والذي منع خروج الفتيات من دون محرم، وأنا كنت أرفض قبل ذلك تعليمهن وإرسالهن إلى المدارس لأن الفتاة يجب أن تخرج من بيت أبيها الى بيت زوجها فقط فهي رمز للعار ونحن في مجتمع محافظ نبحث عن الستر، وأفضل من أن تبقى عانساً في بيت والدها وتصبح حديثآ على كل لسان”.
الآثار السلبية لزواج القاصرات:
تؤكد إحدى الطبيبات النسائيات[6]، رفضت ذكر اسمها، خلال لقاء أجرته معها كاتبة المقال:”هناك أخطار كبيرة تتعرّض لها الفتاة القاصر نتيجة الزواج المبكر من أبرزها احتمال تمزق الأعضاء التناسليّة من آثار الجماع ، وفي حال حدوث حمل تتضاعف هذه المخاطر وقد تؤدي في كثير من الأحيان إلى الوفاة، واختناق الجنين في بطن الأم نتيجة القصور الحاد في الدورة الدمويّة، بالإضافة إلى الإصابة بمرض هشاشة العظام وبسن مبكرة نتيجة نقص الكلس، ناهيك عن فقر الدم و الإجهاض حيث تزداد معدلات الإجهاض والولادات المبكرة وذلك إما لخلل في الهرمونات الأنثويّة أو لعدم تأقلم الرحم مع عملية حدوث الحمل”.
زواج الأطفال انتهاك لحقوق الإنسان:
يصف صندوق الأمم المتحدة للسكّان UNFPA زواج الأطفال بالانتهاك، وبحسب الصندوق فإن هذا الزواج يرتفع في الدول النامية حيث تتزوج واحدة من كل ثلاث فتيات قبل بلوغها سنة (18)، وواحدة من كل خمسة قبل بلوغها سنة (15) سنة[7].
في مادتها (16) الفقرة (2) فإن اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) نصت على أن “لايكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضروريّة، بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمراً إلزاميّاً”[8].
ووفق مسؤولة في اليونيسيف قالت:”عندما تجبر الفتاة على الزواج وهي طفلة فإنّها تواجه عواقب فورية وطويلة الأمد، وتتناقص احتمالات إتمامها لدراستها في حين تتزايد احتمالات تعرضها لسوء المعاملة من قبل زوجها وأن تعاني من مضاعفات أثناء فترة الحمل”. وحسب المنظمة الأممية فإن الأدلة تشير إلى أن الفتيات اللائي يتزوجن في سن مبكر يتركن التعليم الرسمي ويصبحن حوامل في كثير من الأحيان.كما أن الوفيات النفاسية المرتبطة بالحمل والولادة تعتبر عنصرآ هامآ لوفيات الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عاماً في جميع أنحاء العالم[9].
أرقام وإحصائيات
إن خطر ظاهرة تزويج الفتيات القاصرات في سوريا يزداد يومآ بعد يوم، وهي مشكلة كبيرة تهدد مستقبل آلاف الفتيات.
حيث ارتفعت هذه النسبة بسبب ظروف الحرب. ما ذكره الشهود في المقال يؤكّد ما أشارت إليه مسؤولة في صندوق الأمم لمتحدة للسكّن UNFPA عام 2019 عن ارتفاع نسبة الزواج المبكر في سوريا من (13%) إلى (46%) خلال فترة الحرب، وأن المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة كانت تعاني من العنف بشكل كبير حتى في موضوع الزواج المتكرر للفتيات.وفي نفس التصريح فإن المسؤولة في UNFPA اعتبرت أن من أسباب الزواج المبكر رفع العبء عن الأسرة بأكلها وشربها والخوف من تعرض الفتاة للاعتداء القائم على العنف الجنسي[10].
وبحسب تقرير نشره صندوق الأمم المتحدة للسكان في آذار 2019 وحمل عنوان”عندما تغني الطيور الحبيسة،قصص الفتيات السوريات اليافعات”[11] فقد تضمنت 12% من الزيجات المسجلة بين السوريين، فتيات تحت سن (18) عاماً عندما اندلعت الأزمة عام ٢٠١١ وقد ارتفعت هذه النسبة إلى (25%) عام 2013 وفي اوائل 2014 وصلت النسبة إلى (32%) وبقيت ثابتة منذ ذلك الحين.
في سنوات الحرب في سوريا كان الخاسر الأكبر في هذا النزاع الطويل الفتيات القاصرات اللاتي أجبرن[12] على الزواج[13] وهنّ في عمر الطفولة دون إدراكهن العواقب الكثيرة التي في انتظارهن والتي قد تنتهي إما بموت أو طلاق أو العيش في ظلمة القسوة، هذه الظاهرة تتفاقم يومآ بعد يوم وهي مشكلة كبيرة تهدد مستقبل آلاف الفتيات مع غياب دور الجهات الفاعلة في الحد من المشكلة وإيقاف هذه الجريمة بحق الطفولة.
[1] زواج الأطفال: 12 مليون فتاة في جميع أنحاء العالم يتزوجن قبل عيد ميلادهن الثامن عشر كل عام – منظمة الامم المتحدة للطفولة UNICEF
زواج الأطفال | الموقع العالمي (unicef.org)
[2] أجرت كاتبة المقال اللقاء بشكل مباشر بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 2021.
[3] أجرت كاتبة المقال اللقاء بشكل مباشر بتاريخ 2 كانون الثاني/يناير 2022.
[4] أجرت كاتبة المقال اللقاء بشكل مباشر بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2022.
[5] أجرت كاتبة اللقاء المقال بشكل مباشر بتاريخ 17 شباط/فبراير 2022.
[6] أجرت كاتبة المقال اللقاء عبر الهاتف بتاريخ 26 شباط/فبراير 2022.
[7] زواج الأطفال – صندوق الأمم المتحدة للسكّان
https://arabstates.unfpa.org/ar/%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84
[8] اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة
[9] اليونيسيف:تزويج القاصرات ظاهرة ضحيتها 12 مليون فتاة سنوياً.
[10] فتيات صغيرات تزوجن أكثر من مرة..الصندوق السكاني:الزواج المبكر ارتفع إلى 46 بالمئة في سوريا في الأزمة – صحيفة الوطن السورية – آذار/مارس 2019.
وصفحة صندوق الامم المتحدة للسكان-سوريا على فيس بوك
https://www.facebook.com/UNFPASyria/posts/2339070416373954/
[11] عندما تغني الطيور الحبيسة:قصص الفتيات السوريات اليافعات – صندوق الامم المتحدة للسكان -آذار/مارس 2019.
[12] الزواج المبكر..تدمير لحياة الأطفال – من حولة ال 16 يوم لمناهشة العنف ضد المرأة-
تشرين الثاني/نوفمبر 2021
[13] نفق بلا نهاية – منظمة العدالة من أجل الحياة – كانون الثاني/يناير 2021.
https://jfl.ngo/%d9%86%d9%81%d9%82-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9/