ملخص تنفيذي
حاول داعش إنشاء مؤسسته التعليمية الخاصة في دير الزور لرفد منظومته بالشبان المقاتلين المهيئين عقائدياً. منعته الصعوبات المالية وبدء غارات التحالف الدولي من تشغيل هذه المؤسسة فعلياً. لكن على الجانب الآخر ابتكر المدنيون طرقهم الخاصة في مقاومة التعليم المفروض على صغارهم. الأهالي، المعلمون، الطلاب كلٌّ منهم كان له حيلُهُ الخاصة التي عززت أساليب المقاومة المدنية اللاعنفيّة في وجه أعتى أنظمة الاستبداد. إن نشر هذه التجارب الشجاعة التي ابتكرها المدنيّون في تعليم أبنائهم على وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات التواصل على واتساب وغيرها سيكون مفيداً، فالأفراد الذين يهتمون بالحفاظ على تعليم الاطفال في دير الزور سيقلدون الحيل المستخدمة. وقد يلهم ذلك أيضاً مدنيين آخرين يرزحون تحت حكم داعش في مناطق آخرى.
مقدمة
يستعرض التقرير 7 مقابلات مع شهود عيان من معلمين وأهالي، تحدثوا عن تجربتهم في المقاومة المدنية للتغلب على قوانين داعش والتهرب من مدراسه ومناهجه المفروضة عليهم. قمنا بترميز أسماء المشاركين حماية لهم. تمت المقابلات عبر الهاتف والانترنت في الفترة الممتدة بين 3 إلى 30 من شهر أيار 2016. يسلّط القسم الأول من هذا التقرير الضوء على واقع التعليم في مناطق من دير الزور فيما يتحدث القسم الثاني عن أمثلة المقاومة المدنية في التعليم. يؤكد هذا التقرير على وجود مقاومة مدنية لاستمرار التعليم في دير الزور، وكذلك ضرورة نشر هذه المعلومات على وسائل التواصل.
القسم الأول: الوضع التعليمي في دير الزور
بعد انتهاء معركة الشعيطات منتصف أغسطس/آب 2014 عكَف داعش على نشر قواعد مؤسسته التعليمية الجديدة في أوساط التربويين، انتشرت شائعات حينها عن توزيع الكتب على المدارس بالمجّان. قال “م ع” 33 عام مدرسٌ سابق، يعمل حالياً في تركيا ومعاصرٌ لتجربة تعليم داعش في دير الزور “لم يعط داعش بدايةً الأولوية للتعليم”. حسب قوله كانت الأولوية في الشهور الستة الأولى التخلص من العناصر المسلحين السابقين في جبهة النصرة والجيش الحر. كانت المدارس في هذه الفترة تعمل وفق المنهاج القديم الذي يديره معلمون سابقون بالتعاون مع المجالس المحلية. يضيف “م ع” بدأ داعش بعدها باتخاذ خطوات تدريجية لعمل المدارس فأصبح التعليم متاحاً للذكور فقط وعلى ولي أمر الطالب التعهد بإرسال ابنه للمدرسة ومتابعة دوامه وإلا سيتحمل المسؤولية كاملة. هذا ما كان يطلبه المسؤولون في داعش من الإداريين في المدارس. لوحظ في صفوف الخامس والسادس الابتدائي وجود مادة التربية الجهادية والتي تهدف إلى تعليم الطفل القتال والتدريب على حمل السلاح.
مع بداية استقرار داعش في المنطقة بدأ التركيز أكثر فأكثر على قطاع التربية والتعليم. اتصفت السياسة التعليمية بتقسيم السنوات الدراسية إلى ثلاث مراحل (ابتدائية ومتوسطة وإعدادية)، موزعة على تسع سنوات، وتبلغ مدة الدراسة في السنة الواحدة 10 أشهر هجرية مقسّمة على فصلين دراسيين.
قال “س ش” أحد معلمي مدينة الميادين إن مدرساً يدعى حسام العويد كان يعمل بأمر من ديوان التعليم في ولاية الخير على تجنيد شبكة مخبرين من اليافعين والأطفال “أشبال الخلافة” كما يدعوهم، تقوم بالتفتيش في الأسواق العامة عن الطلاب المتسربين من المدراس وإجبارهم على العودة والدراسة بمنهاج داعش.
من الواضح أن التعليم بعد التخلص من المقاتلين المناوئين كان الهاجس الأكبر لدى داعش حيث أُخضِع العاملون في قطاع التربية لدرواتٍ شرعية. كانت الدورات مُهينة بشكل كبير حسب وصفِ من خضعوا لها. كان محتوى المناهج يُظهر بشكلٍ واضحٍ التخطيط الاستراتيجي لداعش في أدلجة طلبة المدارس وتعويدهم منذ نعومة أظافرهم على صور الأسلحة والسيوف. انظر الصورة ١ وهي عينة من كتاب الحساب للصف الثاني الابتدائي من منهاج داعش التقطت من أحد مدارس البوكمال قرب الحدود السورية العراقية. من الواضح أن داعش كان يسعى لتحويل المدارس إلى مراكز تجنيد لتكون المدرسة جزءاً من آلة رفده بالمقاتلين مستقبلاً.
مستوى التعليم المقدم كان سيئاً جداً لسببين. الأول اعتماد داعش على الولاءات لا على الكفاءات في كافة مفاصل هيكليته الإدارية والعسكرية. من المفيد الإشارة هنا لسقطة تظهر رداءة مستوى تعليم داعش بطلها المكتب الإعلامي لـ “ولاية دمشق” الذي سجل مؤخراً هدفاً في مرماه عندما نشر تقريراً مصوراً يعرض جولة داخل مدارس مدينة الحجر الأسود في الثاني من تشرين الأول 2015 حين كانت تتواجد داعش في الحجر الأسود جنوب العاصمة دمشق. كُتب على يسار السبورة فيما يبدو أنه درس لغة عربية “كتب: فعل مضارع لأنه يقبل السين وسوف” في حين أن المضارع هو يكتب وليس كتب. (انظر الصورة ٢). والسبب الثاني الذي منع من الاستمرار في العملية التعليمية يُعزى للتكلفة المرتفعة لتشغيل المدارس التي لم يكن بمقدور التنظيم تحمل أعبائها فيما بعد. فعلى سبيل المثال حين وصلت الكتب المذكورة أعلاه بعد نحو 4 أشهر من بداية العام الدراسي بعد طباعتها في الموصل العراقية لم تُوزّع مجانا كما روّج لها مناصرو داعش حينها، بل بيعت بسعر 2000 ليرة سورية للمنهج الواحد بحجة أن المبلغ لتسديد تكاليف النقل من الموصل إلى “ولاية الخير” كما يحلو لداعش تسمية محافظة دير الزور.
بالرغم من أهمية موضوع التعليم يجب أن نأخذ بعين الاعتبار واقع الحال في سوريا وتأثيره على أولويات السكان. فغالبية المدراس في دير الزور متوقفة منذ قرابة عام، ويستعمل داعش هذه المدراس -لاحتواء كثيرٍ منها على أقبية- للاختباء من القصف الجوّي لطيران التحالف الدولي. بالإضافة إلى ذلك نتحدث اليوم عن قرابة 50 دولاراً أمريكياً متوسط راتب الموظف الحكومي السوري، أي أقل من دولارين يومياً بمعدل تضخم اقتصادي بلغ أكثر من 1100 بالمئة. ما دفع الكثير من العوائل إلى تشغيل كافة أفراد الأسرة للمساعدة في حمل أعباء المنزل. فقد شكّل العامل الاقتصادي بعد طول أمد الثورة أحد أهم أسباب انخفاض أولوية التعليم. بالتالي اضطر بعض المعلمين ممن لم يبق لديهم أي مورد دخل آخر للالتحاق بمدارس داعش والبعض الآخر انضمّ خوفاً من إجراءات التنظيم العقابية، فيما العدد الأقل من المعلمين كان مؤمناً بما يحمله داعش من تعاليم كما هو حال المدعو سعيد الغناش الذي ترأس سابقاً ديوان التعليم في مدينة الميادين في حين كان يعلّم مادة الموسيقى في مدارس المدينة قبل انتسابه لداعش.
شكلت كل تلك العوامل عائقاً كبيراً أمام الأهالي والمعلمين على حد سواء في محاولة النهوض بالعملية التعليمية، لكنها لم تثنهم عن إيجاد بدائل وابتكار فرص لتعليم الصغار أبجد هوز.
القسم الثاني: تصريحات عن المقاومة المدنية ضد سيطرة داعش على التعليم
نناقش في القسم الثاني من التقرير تلك التجارب الشجاعة التي يرويها أستاذة وطلاب وأولياء أمورهم في التغلب على ما فُرض عليهم من قوانين وكتب ومدارس جديدة. تظهر هذه المقابلات ثلاث فئات رئيسية لمقاومة سيطرة داعش على التعليم: التعليم المنزلي، الحيل في المدارس، والتغلب على نقاط تفتيش داعش. جميعها تدل على رغبة كبيرة لدى المدنيين في ابتكار كل الحلول الممكنة لاستكمال تعليم الأبناء. الشهادات التالية مع أهالي وطلبة مدراس أظهرت شجاعة منقطعة النظير وحماساً كبيراً للحصول على التعليم.
عمل الأهالي معاً لإقامة التعليم المنزلي
شهدت الأرياف حركة أسهل للمعلمين والطلبة، أكثر مما هو عليه الحال في المدن حيث تتركز قبضة داعش الأمنية. قال “س و” (30 عام)، مدير مدرسة ابتدائية حالياً في الشمال السوري، نزح بعد أشهر من دخول داعش إلى قريته بريف دير الزور الشرقي: “بعد خوف المعلمين من التدريس وفق المنهاج القديم بدأنا في القرى بالتدريس في المنازل”. كان يجتمع في كل بيت 10 إلى 15 طالباً ولا تتجاوز مدة الدرس ساعة ونصف في أقصى الحالات. يتغير المنزل في كل مرة حيث يكون أحد بيوت أهالي الطلاب. كانت المهمة في القرى أسهل لوجود تركيز أمني أقل من عناصر الحسبة على عكس المدن الكبيرة في المحافظة. وما سهّل المهمة أيضاً أن العوائل في ريف دير الزور تسكن بقرب بعضها البعض حيث لا يُستنكر مشاهدة تجمع كبير للأطفال في الشارع.
وكان للمرأة دورٌ هامُ في هذه المدرسة المنزلية. قالت “أ ع” من البوكمال إحدى النازحات إلى مدينة الدانا في إدلب شمال سوريا إن الأمهات هنَّ من يدرّس أطفالهن في البيوت فلم يعد من الممكن الخروج في الشارع دون الالتزام بتعليمات داعش بحذافيرها فهم يتدخلون بكل شيء “حتى بشكل الحذاء الذي نرتديه”. إذا كانت الأم لا تستطيع تدريس الأطفال فكانت تطلب عادة من جاراتها أو قريباتها المتعلمات تنظيم دروس خاصة للأطفال مقابل مبلغ مادي رمزي أو دون مقابل في كثير من الأحيان.
مكر المعلمين يخدع مراقبي داعش
شهدت المدارس أيضاً أمثلة من المقاومة المدنية ضد داعش. كان يكتب بعض المعلمين على السبورة آيات قرآنية ويطلبون من التلاميذ وضع كتب من مناهج داعش على المقاعد فيما يشرحون النظريات التي حذفها ديوان التعليم من المناهج السابقة قبل وصول الكتب الجديدة. قال “ر و” أبٌ لعائلة نازحة من الميادين في الشمال السوري يبلغ من العمر ٦٥ عاماً: “في المعهد الخاص عندما كنا في الميادين كان أستاذة الرياضيات يضعون كتب الديانة على طاولتهم ويطلبون من الطلاب وضع كتب الديانة كذلك على المقاعد. هكذا كان يخبرني ابني الذي يذهب لحصة الرياضيات”. وأكدت هذه المسألة السيدة “ح و” 24 عام معلمة لغة فرنسية من دير الزور نازحة في مدينة إدلب خرجت بعد حوالي عام من سيطرة داعش على دير الزور قالت بهذا الصدد “إن التعليم كان مستمراً خفية من خلال الدروس الخاصة السرية.” كانت دروسها الخصوصية لطالب أو ثلاثة كحد أقصى. كانت تطلبُ أيضاً من كل طالب لديها أن يضع منشورات داعش وكتب العقيدة في حقيبته عند المجيء للدرس كي لا يثير الشبهات حوله في حال أوقفه عناصر من داعش أنه ذاهب لحضور درس حصوصي في المناهج الكفرية كما يسميها داعش. كان يلجأ المعلمون لهذا الأسلوب لخوفهم من اعتقالهم أو معاقبتهم إذا كُشف آمرهم بأنهم يستخدمون كتباً غير كتب ديوان التعليم.
التغلب على حواجز داعش
أكثر أعمال المقاومة المدنية إثارة للدهشة وقعت عند اقتراب نهاية العام الدراسي حين يبدأ أولياء أمور الطلبة في التحضير لامتحانات أبنائهم في المناطق التي يسيطر عليها النظام. راجت في تلك الفترة الدروس الخصوصية السريّة التي كان يجريها طلاب الشهادات الإعدادية والثانوية قبل الذهاب لتقديم الامتحانات في دير الزور المدينة في مناطق سيطرة النظام أو في محافظة الحسكةقال “م ع” مدرس سابق 33 عمره عاماً يعمل حالياً في تركيا: “كان الطلاب البكالوريا في طريقهم للدرس الخصوصي يخفون الكتب تحت الملابس وكانت العملية أشبه بالتعامل بالممنوعات أو الحشيش”. يغلق داعش في تلك الأحيان كافة الطرق المؤدية لتلك المناطق لمنع أي طالب من التقدم للامتحان. للتغلب على هذه النقطة يرسل الأهالي أبنائهم الطلبة قبل اسبوعين أو 20 يوماً أحياناً من تاريخ بدء الامتحان لتأمين استئجار بيوت في مناطق تقديم الامتحان. مما يضيف على الأهالي عبئاً مادياً إضافياً. كذلك في طريق العودة يتجنب الطلاب العودة في نفس اليوم الذي ينتهي فيه الامتحان خوفاً من أن ينفضح أمرهم. أضاف محمد وهو من الطلاب الأوائل في مدرسته الثانوية عبد المنعم رياض بالميادين “كنا دوماً نقوم بإخفاء بطاقات الامتحان عند المرور على حواجز داعش كي لا نُعتقل أو نخضع لدورة شرعية”.
توصيات للناشطين المهتمين بموضوع التعليم
ينبغي التفكير في كيفية تأييد هذه الأمثلة الشجاعة التي قام بها أشخاص من فئات المجتمع المختلفة. فإرسال الكتب المدرسية لمناطق داعش من تركيا إلى دير الزور أو من الشمال السوري يعد ضرباً من الخيال في هذه الفترة. وخيار إرسال نسخ إلكترونية من الكتب لا يعد حلاً منطقياً إطلاقاً في ضوء الأوضاع الأمنية الصعبة. إن الاهتمام بتعليم النازحين من دير الزور مهم جداً حيث يصعب تأمين تعليم بديل داخل دير الزور. وبالتالي من المفيد حالياً نشر هذه التجارب الشجاعة التي ابتكرها المدنيّون في تعليم أبنائهم على كافة وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات التواصل على واتساب وغيرها فقد تلهم مدنيين آخرين يرزحون تحت حكم داعش في دير الزور وغيرها من المناطق ويعزز أساليب المقاومة المدنية اللاعنفيّة في وجه أعتى أنظمة الاستبداد.