تركت سنوات الحرب وما تخللها من عمليات عسكرية وتبعات سياسية، آثاراها المباشرة على مختلف القطاعات الحيوية في سوريا. وقد مثّل النظام الصحي أحد أبرز القطاعات المتضررة على مدار السنوات الفائتة، سواء لناحية تعرض البُنية التحتية للتدمير أو الأضرار الجسيمة، مقابل تراجع صيانة الأجهزة الطبية ومحدودية قطع غيارها. ناهيك عن هجرة العديد من المتخصصين أو قتلهم واعتقالهم، إضافة إلى انهيار قطاع صناعة الأدوية.
علاوة على ذلك، أدَّت تجزئة السُلطات في البلاد، وفقاً لمناطق النفوذ والقوى المختلفة، إلى تجزئة النظام الصحي وإنشاء مؤسسات صحية خاصة بالأطراف المتنازعة، والتي غالباً ما تفتقر إلى الحوكمة الفعّالة. وفي هذا السياق، برز دور المجتمع المدني بشكل ملحوظ في تقديم الخدمات الصحية، لا سيما في المناطق المحاصرة. ومع ذلك، فإن هذه المنظمات المدنية عانت ولا تزال من نقص الموارد وضعف التنسيق والحوكمة، مما أعاق قدرتها على تلبية الاحتياجات الصحية المتزايدة للسكان([1]).
وقد طال القطاع الصحي شمال شرق سوريا ما طاله في باقي المناطق، وإن كان بدرجات متفاوتة تبعاً لحدة المعارك التي شهدتها كل منطقة. وتعتبر مناطق شمال شرق وشمال غرب سوريا الأضعف من حيث قلة عدد مراكز الخدمات الصحية منذ ما قبل العام 2011، الأمر الذي فاقم آثار تراجع القطاع الصحي على السكان. ومنذ سيطرة الإدارة الذاتية على المنطقة، تتولى هيئة الصحة التابعة لها الإشراف على المنظومة الصحية عبر لجانها المنتشرة في الأقاليم المُستحدثة. وبالرغم من ذلك، فإن دور تلك اللجان يُعتبر ضعيفاً ومحدوداً، خاصة في محافظة دير الزور، حيث يسيطر على النظام الصحي هناك تحالف من العاملين في المنظمات غير الحكومية وممثلي الأمم المتحدة، الذين يعملون ضمن مجموعة العمل الصحية بإشراف منتدى شمال شرق سوريا بقيادة منظمة الإغاثة الدولية([2]).
ويعد قطاع الصحة في مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الأكثر تضرراً نتيجة سنوات الحرب، إذ طالته أضرار جسيمة نتيجة النزاع المستمر وأطرافه المتعددة، مما أثر بشكل كبير في قدرته على تقديم الرعاية الصحية الأساسية. وقد ساهمت سنوات الحرب بتدمير جزء كبير من البُنية التحتية الصحية كالمشافي والمراكز الطبية، إضافة لتحويل بعض المنشآت إلى ملاجئ للنازحين. كما فقد القطاع الصحي الكثير من كوادره الطبية، حيث تم قتل أو اعتقال أو تهجير العديد من الأطباء والممرضين، مما أدى إلى نقص كبير في القوى العاملة الطبية. علاوة على ذلك، كانت هناك أزمة كبيرة في توافر الأدوية والمعدّات الأساسية، مما أضاف ضغوطاً مضاعفة على النظام الصحي الهش.
مع بداية عام 2019، بدأت تظهر بعض التحسينات في القطاع الصحي، حيث تم تأهيل العديد من المنشآت الصحية وتفعيل عدد من المراكز الطبية والمشافي الجديدة. وقد كان لهذه التحسينات تأثير إيجابي على قدرة النظام الصحي على تقديم الرعاية؛ إلا أنها لم تكن متساوية في كافة المناطق، وغير كافية لمواجهة التحديات الكبيرة التي لا تزال قائمة. بالمقابل، ساهمت الظروف الأمنية المضطربة في دير الزور بإعاقة فعالية القطاع الصحي أيضاً، إذ أن استمرار النزاعات وتراجع الأمن يعوقان الجهود المبذولة لتحسين وتطوير الرعاية الصحية، مما يجعل تحقيق الاستقرار صعباً في هذا المجال.
وفي ظل هذه الظروف، تبرز الحاجة المُلحّة لتقييم الأضرار الحالية التي لحقت بالقطاع الصحي في دير الزور، وتحديد أبرز احتياجاته ومعوّقات وصول الخدمات الصحية إلى السكان. وعليه، تسعى هذه الورقة إلى جمع وتحليل آراء الخبراء من أبناء المنطقة للوصول إلى تقييم شامل لوضع القطاع الصحي الحالي في دير الزور، وتقديم توصيات عملية يمكن تنفيذها لتحسين واقع هذا القطاع، بما يسهم في تعزيز الوصول إلى الخدمات الصحية وتطوير البُنية التحتية الطبية في المحافظة.
تستند أهمية هذه الورقة إلى دور القطاع الصحي كعنصر أساسي في أي نظام سياسي واجتماعي واقتصادي، حيث يرتبط بشكل وثيق بصحة السكان وبأهداف التنمية المستدامة. وهي أيضاً تكتسب أهمية خاصة نظراً لدورها في تقييم أضرار هذا القطاع في دير الزور وتحديد احتياجاته الحالية. وذلك، في إطار أوسع متمثل بمشروع (تواصل)، الذي أطلقته منظمة العدالة من أجل الحياة بهدف إيجاد حلول للتحديات الخدمية والإدارية شمال شرق سوريا. حيث يهدف المشروع إلى تعزيز الحوار المتعدد الأطراف وإشراك المواطنين بشكل أعمق في صياغة سياسات فعّالة، مما يعزّز من الفعالية والكفاءة والعدالة في عملية الإصلاح. وفي ظل الأوضاع الراهنة التي تتسم بعدم الاستقرار وتفاقم التحديات، يساعد هذا التقييم في وضع توصيات عملية تُعزّز التنمية المستدامة وتسهم في تحسين الرعاية الصحية لسكان المنطقة.
لقراءة الورقة كاملة: قطاع الصحة الواقع وآليات تحسين الاستجابة