في أواخر آب/أغسطس الماضي، وبعد أشهر من الترقب والمطالبات المتزايدة من روابط العائلات ومنظمات المجتمع المدني، أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تقريرًا يفصل الهيكلية والولاية المحتملتين لمؤسسة مقترحة مكلفة بالبحث عن الأشخاص المفقودين والمختفين داخل سوريا. وبينما يقدم التقرير لمحة شاملة عن الآثار الوخيمة لأزمة الأشخاص المفقودين والمختفين على السوريين، ويقترح دعمًا مهمًا لعائلات المفقودين الذين يكافحون اقتصاديًا وقانونيًا، فإن الآلية المقترحة لا تلبي التوقعات بما فيه الكفاية من أجل معالجة نطاق الأزمة.
تأمل المنظمات الموقعة أدناه أن تتمكن الدول الأعضاء من الاستفادة من بعض الأفكار المطروحة في التقرير، بالإضافة إلى الورقة الأصلية التي أصدرتها مجموعة عائلات ميثاق الحقيقة والعدالة، من أجل بناء الإرادة السياسية لآلية أكثر طموحًا تتمتع بالقدرة لإحداث تغيير ملموس لضحايا الاختفاء القسري وعائلاتهم.
مشكلة الإرادة السياسية
يحدّد تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان العديد من “الثغرات والتحديات” في البحث عن المفقودين والمختفين ومنها “عدم كفاية التنسيق” و”المعلومات المجزأة وغير المستغلة بشكل كافٍ”. وإن الحلول المقترحة في التقرير تستجيب لهذه الثغرات التي تم تحديدها وتسلّط الضوء على الحاجة إلى وجود هيئة واحدة يمكنها تنسيق و”إجراء مجموعة كاملة من الأنشطة” اللازمة للبحث عن المفقودين. ويُعتبر التنسيق من هذا القبيل مهمًّا بالتأكيد، وفي بعض سياقات ما بعد النزاع، قد يكون وجود هيئة مركزية هو الحاجة الأساسية.
غير أن غالبية ضحايا الاختفاء القسري في سوريا اعتقلتهم الحكومة السورية. وإن العائق الرئيسي أمام العثور على هؤلاء الأفراد ليس مسألة تنسيق، بل الجرائم المستمرة والعراقيل التي تضعها الحكومة السورية. يجب أن تركز الجهود المتجددة للبحث عن المفقودين من قبل المجتمع الدولي على بناء الإرادة السياسية بهدف جلب الحكومة السورية إلى طاولة المفاوضات في هذا الملف، حتى لو كان ذلك بطريقة محدودة. إذ إنه من خلال تجاهل هذا التحدي الأساسي بشكل فعال، فإن تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان لا يقدم آلية مناسبة لهذا السياق.
من المرجح أن المفوضية السامية لحقوق الإنسان قد حددت أولويات مجالات العمل بشكل مقصود، مثل التنسيق بين منظمات المجتمع المدني، والتي يبدو أنه من السهل تحقيقها في ظل المناخ الحالي. غير أن التقرير يتجاهل بذلك القضية الأكثر إلحاحًا، ألا وهي الإفراج الآمن عن المعتقلين الذين ما زالوا محتجزين في السجون السورية. واقترحت المفوضية السامية لحقوق الإنسان آلية يتم إنشاؤها من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونتيجة لذلك، من شبه المؤكد أنه لن يتم منحها حق الوصول إلى الأراضي السورية، لتواجه بذلك ذات التحديات التي واجهتها كل من الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) ولجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا (COI). ولن يكون لهذه الآلية القدرة على إعادة ربط العائلات بالمعتقلين حاليًا، أو الوصول إلى سجلات الاعتقال لدى الحكومة السورية، أو تأكيد الوفيات من خلال تحقيقات الطب الشرعي في المقابر الجماعية. إن الوصول الدولي المستمر إلى مركز اعتقال عسكري واحد، ناهيك عن ضمان الإفراج عن المعتقلين داخله، سيكون أكثر تأثيرًا مما ستتمكن من تحقيقه أي مؤسسة تعمل من خارج البلاد، وفق المقترح في تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان. نتيجة لذلك، يجب أن يكون بناء الإرادة السياسية لحل أزمة المعتقلين في صميم أي جهد، حتى لو كانت هذه هي المهمة الأكثر صعوبة.
مقاربة أكثر طموحًا:
تدعم المنظمات الموقعة أدناه الجهود الدولية المتضافرة لتحديد مصير المفقودين والمختفين ولم شمل العائلات. يجب أن تقود هذه الجهود الدول الأعضاء، من خلال آلية مستقلة تكون فيها اللجنة الدولية للصليب الأحمر أحد الأطراف، وتتدخل لأداء العمل حسبما تسمح به الإرادة السياسية. في حين أن مثل هذه الآلية يمكن أن تستند إلى الإطار العام الذي توفره المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ينبغي أن تعطي الأولوية للوصول إلى مراكز الاعتقال السورية ولمّ شمل العائلات. وعندما يحدث الإفراج، كما حدث بموجب مرسوم العفو العام الذي صدر في أيار/مايو من هذا العام، فإن مثل هذه الآلية يمكن أن تنسّق مع الحكومة لضمان عمليات إفراج إنسانية، يتم بموجبها إبلاغ العائلات على الفور وتقديم المساعدة للمعتقلين المفرج عنهم من أجل تحديد موقعهم ولم شملهم بذويهم.
من أجل الوصول إلى هذه الأهداف، يجب على المجتمع الدولي العمل على إنشاء آلية من خلال الجمعية العامة بالتوازي مع العمل على بناء الإرادة السياسية لإنجاحها. لذا، يجب أن تكون الخطوة الأولى هي بدء النقاشات مع حلفاء الحكومة السورية ومن لهم تأثير عليها. ومن خلال هذه النقاشات، يمكن لأصحاب المصلحة العمل معًا لإنشاء إطار للتعاون، وربما يشمل آلية مستقلة، من شأنها أن تخلق الوصول اللازم لتحديد موقع الأشخاص المفقودين والمختفين وللإفراج عن المعتقلين.
كخطوة أولى في هذه العملية، تدعو المنظمات الموقعة أدناه الدول الأعضاء في اللجنة الثالثة للأمم المتحدة إلى إصدار قرار هذا الخريف يرحب بالتقرير ويدعو الأمين العام إلى تفويض مبعوث خاص للعمل من أجل إنشاء إطار عمل تنفيذي بالتشاور مع الحكومة السورية وحلفائها للبحث عن المفقودين والمختفين في سوريا.
من أجل جعل هذه الجهود أكثر قبولاً للحكومة السورية، يجب على المجتمع الدولي النظر في الخطوات التالية:
- فصل قضية المعتقلين والمفقودين والمختطفين عن المفاوضات السياسية والقرار 2254 وتقديم حوافز حقيقية وملموسة تشجّع على الإفراج عن المعتقلين وكشف مصير المفقودين.
- التركيز على شمول البلاد بأكملها ضمن عمل الآلية، وضمان إشراك جميع أطراف النزاع وبحث ملف المفقودين والمعتقلين لدى جميع الأطراف.
- التواصل مع دول مثل الإمارات والجزائر وإيران وتركيا والحلفاء الآخرين للحكومة السورية الذين سيستفيدون من حصول سوريا على بعض الدعم الاقتصادي أو إعادة تأهيل سياسي. من الضروري ألا يتم تقديم أي حوافز إلا مقابل تغيير حقيقي وملموس، يتضمّن وقف المزيد من حالات الاختفاء القسري.
- ضمان وجود تفويض إنساني للآلية، بحيث لا تكرر الآلية الجهود القائمة في ملف المساءلة.
إن اقتراح آلية قائمة بذاتها للبحث عن المفقودين والمختفين في سوريا هو خير دليل على الحجم المهول لأزمة الأشخاص المفقودين والمختفين في سوريا وجهود المناصرة التي تقوم بها العائلات دون كلل أو ملل. غير أن إنشاء آلية دون القدرة على إحداث التغيير من شأنه أن يتيح للدول الأعضاء ادّعاء النجاح وتجاهل هذا الملف في المستقبل، بينما تستمر معاناة العائلات والمعتقلين. تستحق العائلات السورية وذوها المفقودون أكثر من ذلك.
يمثل تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان فرصة للدول الأعضاء لوضع خطة شاملة من شأنها أن تخلق نسخة من الآلية المقترحة، مدعومة بجهود سياسية مركزة، والتي يمكن أن تحقق في النهاية تقدمًا ملموسًا للأشخاص المفقودين وعائلاتهم.
المنظمات والروابط الموقعة:
المركز السوري للعدالة والمساءلة
سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
العدالة من أجل الحياة
أورنامو للعدالة وحقوق الإنسان
رابطة “تآزر” للضحايا