سناء العلي – دير الزور
جلست قرب ريم ونظرت إلى عينيها، تبلغ من العمر عامين ونصف، في أماكن أخرى حول العالم، يلعب الأطفال بأمان، ويحظون برعاية كافية، لكن ريم وكما هو واضح عليها اختبرت الجوع والمرض والهزال. قالت والدتها: “المنظمات تزورنا ولكننا لا نستفيد منهم شيئاً”.
التمويل المتناقص يجبر برنامج الأغذية العالمي على خفض المساعدات الغذائية والنقدية لحوالي نصف المستفيدين البالغ عددهم 5.5 مليون الذين يدعمهم البرنامج في سوريا، اعتباراً من بداية شهر تموز الحالي. هذا التحرك سيؤثر بشدة على حوالي 2.5 مليون شخص يعتمدون على الحصص التي بلغ حجمها أصلاً نصف الحصة الغذائية القياسية والتي بالكاد يعيشون عليها.
هذا القرار لم يأخذ بعين الاعتبار ريم الصغيرة، ولا والدتها، ولا ملايين الأطفال المهددين في البلاد. تحتل سوريا المرتبة السادسة من حيث عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في العالم. يقدر برنامج الأغذية العالمي أن أكثر من نصف السكان في سوريا في قبضة الجوع. وأن قرابة الثلاثة ملايين شخص آخر معرضون لخطر انعدام الأمن الغذائي.
قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” في بيان لها العام الفائت أنه من الخطير جداً ترك ملايين الأطفال في سوريا أمام الخطر المتزايد للإصابة بسوء التغذية. وجاء في البيان: “يقدّر عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات بمرض التقزم بأكثر من ستمائة ألف كفل نتيجة إصابتهم بسوء التغذية المزمن، فيصبحون بذلك عرضة للإصابة بأضرار جسدية ونفسية لا يمكن الشفاء منها”.
الشكل الأكثر بروزاً وتهديداً للحياة من أشكال سوء التغذية هو الهزال، وهو ينجم عن الفشل في منع سوء التغذية بين الأطفال الأشد ضعفاً.
ويكون الأطفال المصابون بالهزال نحيفين بشدة ويكون نظام المناعة لديهم ضعيفاً مما يجعلهم معرضين لتأخر النمو، والإصابة بالأمراض، والوفاة. كما يعاني بعض الأطفال المصابين بالهزال من وذمة غذائية، تبرز من خلال انتفاخ الوجه والقدمين والأطراف.
ووفقاً لمنظمة اليونيسيف فإنه لم يتم الوصول سوى إلى طفل واحد من كل ثلاثة أطفال ممن يعانون من الهزال الشديد حول العالم وتزويدهم بما يحتاجونه من علاج ورعاية في الوقت المناسب ليتمكنوا من الحياة بشكل معافى.
تعيش الطفلة ريم مع والدتها في بيت جدها في ريف دير الزور، الفقر واضح في أركان المنزل، جلست قرب والدة ريم وسألتها عما حدث، تقول الوالدة حزينة: “بدأت ريم بالاستفراغ ونقصت شهيتها لتناول الطعام، كانت تعاني من الإسهال أيضاً”، أخبرتها إحدى جاراتها عن منظمة طبية في القرية يمكن لها المساعدة، حملت الوالدة طفلتها الصغيرة بسرعة وتوجهت إلى الجمعية، قالت لها الممرضة أن ريم تعاني من سوء تغذية حاد.
“خفت كثيراً، كدت أقع أرضاً لكن الممرضة ساعدتني وأعطتني كأساً من الماء”. أم ريم في مأزق حقيقي تقول لي “لم يكن لدي أي مال للذهاب إلى الطبيب، زوجي عسكري لدى قوات قوات سوريا الديمقراطية، يغيب أسبوعاً كاملاً في عمله”، طلبت أم ريم المال من أحد الأقارب وتمكنت من الذهاب إلى المستشفى، كتب الطبيب لها علاجاً وأنواعاً معينة من الغذاء، لكن الوالدة لم تستطع الالتزام بتعليماته، فبدأت حالة الطفلة تسوء أكثر فأكثر “راتب زوجي لا يكفي للعلاج، نحن فقراء للغاية”.
مازالت ريم تعاني من سوء التغذية حتى هذه اللحظة، والدتها تنتظر أية مساعدة لإنقاذ طفلتها الصغيرة.
بحسب منظمة اليونيسيف فإن: “سوء التغذية الحاد بين الأطفال السوريين في ارتفاع مستمر. ارتفع عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 6 و59 شهراً، والذين يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم بنسبة 48 في المائة من عام 2021 إلى 2022”.
ارتفاع الأسعار وعدم كفاية الدخل، يعني أن ملايين العائلات تكافح لتغطية نفقاتها في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة. ويعيش حوالي تسعون في المائة من السكان في سورية في فقر بحسب اليونيسيف. ويؤثر الأمر سلباً في النظام الغذائي للأطفال. في عام 2023 قبل زلزال السادس من فبراير/ شباط الماضي، كان أكثر من 3.75 مليون طفل في سوريا بحاجة إلى مساعدات غذائية، بينما كان 7 ملايين طفل في عموم البلاد بحاجة لمساعدات إنسانيّة عاجلة، ورغم أن الزلزال لم يضرب شرق سوريا إلا أن مفاعيله على الموارد الغذائية كان كبيراً في كل المناطق السورية.
علياء طفلة أخرى زرتها في بيتها بقرية الزغيّر بدير الزور، كانت والدتها تطبخ الأزر لأطفالها الثلاثة، الوالدة المتعبة أخبرتني أن زوجها يتقاضى راتباً زهيداً لقاء ساعات عمله الطويلة، وهذا الراتب لا يكفي غذاء الأطفال بالطبع.
علياء ذات العام والنصف تعبت كثيراً بحسب أمها: “ذهبت إلى صيدلية أبو عبد الله، طلب مني الرجل تحاليلاً لابنتي” .
علمت الوالدة أن ابنتها مصابة بسوء التغذية، أخبرتني أن والدها كان حزيناً للغاية، وبأنه تمنى لو كان لديه بعض المال ليشتري كل الاحتياجات من طعام وشراب.
يقول والد الطفلة علياء: “نحن بحاجة لتوفير الأدوية للمراكز الصحية، ومن ضمنها العيادات الصحية المتنقلة، كي يصبح إيصال الإمدادات والخدمات المنقذة للحياة ممكناً، وعلاج أطفالنا وإيصال المساعدات والخدمات المنقذة للحياة ممكناً”.
يضيف الرجل: “ما لم تتوفر الرعاية الصحية والحماية، فإن عدد أكبر من الأطفال سيموت يوماً بعد يوم في دير الزور، وأماكن أخرى في سوريا. سوف يحاكمنا التاريخ على كل هذه الوفيات التي يمكن تجنبها بالكامل”.
قال الدكتور طارق مدير مستشفى الكسرة في حديثه معنا:” بلغ عدد الأطفال المصابون بسوء التغذية الذين استقبلتهم مشفى الكسرة تحت إشراف منظمة ريليف 100الى 150 طفلاً، وأعمارهم من 7 أشهر حتى 11 شهراً خلال شهر نيسان وأيار/ مايو فقط. مشيراً ان أعداد الأطفال والنساء الحوامل المصابين بسوء التغذية بارتفاع، وأن عدد النساء الحوامل اللواتي يعانين من سوء التغذية بمستشفى الكسرة تقريباً من 50 إلى 70 منذ بداية شهر أيار والأعداد تزداد كل يوم، لا يوجد اخصائي سوء تغذية في المستشفى لكي يشرف على هذه الحالات”.
وأضاف طبيب أطفال التقيناه في المستشفى، وفضّل عدم الكشف عن اسمه: “عدد الأطفال الذين نستقبلهم حالياً بتزايد، سوء التغذية عند الطفل سببهُ سوء التغذية عند الأم نفسها، الفقر المحدق بالناس، كثرة الأطفال عند الأم، عدم قدرة الأمهات على الإرضاع، إضافة لاجتهاد الأم بتغذية الطفل بشكل شخصي دون الرجوع للطبيب، الأمراض الإنتانية عند الأطفال وسبب عدم معالجتها وإهمالها، مياه الشرب الملوثة والغير نظيفة”.
منذ عام 2015 ، زادت مستويات انعدام الأمن الغذائي في سوريا بأكثر من النصف وذلك بحسب إحصاء برنامج الغذاء العالمي، وتعتبر المنطقة الشرقية في سوريا من أفقر المناطق في البلاد حتى قبل بدء الحرب السورية، واليوم ومع التغييرات الهائلة التي تطرأ على برنامج الغذاء في سوريا، فإن عدد الأطفال المهيئين للإصابة بنقص التغذية مهدد بالتزايد، الأمر الذي يتطلب تحركاً على مستويات محلية ودولية في آن معاً.