تُعتبر تجارة المخدرات في سوريا من أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي برزت بشكل لافت خلال سنوات النزاع. فمنذ التحول إلى الصراع المسلح، أصبحت تجارة المخدرات جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد الحرب في سوريا، إذ تورطت فيها مختلف أطراف النزاع بما في ذلك الحكومة السورية، وجماعات المعارضة المسلحة، والتنظيمات المتطرفة. وقد لعبت هذه التجارة دوراً كبيراً في تمويل العمليات العسكرية وتغطية نفقات الحرب، ما جعلها تنمو بشكل متسارع وغير مسبوق.
وبعد استعادة الحكومة السورية السيطرة على معظم مناطق المعارضة في عام 2018، ولا سيّما المعابر الحدودية مع الأردن والعراق، شهدت تجارة المخدرات تضخماً ملحوظاً، حيث توسع نطاق توزيع المخدرات، ليس فقط داخل سوريا، بل أيضاً نحو الدول المجاورة والأسواق العالمية. وتشير متابعة ما تم ضبطه في الدول العربية من حبوب الكبتاجون، الذي تتركز صناعته في سوريا، إلى ضبط مليار حبة في الفترة ما بين (2019 و 2022)، الأمر الذي يثبت أن تجارة المخدرات في سوريا تدر أرباحاً تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً، مما جعل سوريا واحدة من أكبر مراكز إنتاج وتوزيع المخدرات في العالم، في ظل تورط أشخاص وكيانات مدنية وعسكرية مقربة من حكومة دمشق بشكل مباشر في صناعة وتجارة المخدرات كما تشير لوائح العقوبات الأمريكية والأوربية.
وإضافة إلى كونها دولة منتجة، تحولت سوريا إلى بلد عبور رئيسي لأنواع مختلفة من المخدرات القادمة من لبنان وإيران، حيث تُستخدم الأراضي السورية كمحطة لتوزيع المخدرات نحو أسواق أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. تقارير متعددة تشير إلى تورط الفرقة الرابعة وحزب الله اللبناني والميليشيات الإيرانية في هذه الشبكة الإقليمية لتجارة المخدرات، كما أن تتبع خارطة انتشار معامل الكبتاجون في سوريا يُظهر سعي تلك المليشيات إلى توطين صناعة المخدرات في مناطق سيطرتها الواقعة قرب المنافذ الحدودية السورية مع دول الجوار، وعلى خطوط التماس مع مناطق المعارضة السورية والإدارة الذاتية، وذلك بهدف تسهيل تهريبها.
ومع تشديد الرقابة على الحدود السورية من قبل دول الجوار وخصوصاً الأردن، وتراجع التهريب عبر البحر إلى أوروبا من ميناء اللاذقية، يلجأ مهربوا المخدرات إلى تصريف فائض عرضها في السوق السورية المحلية، وذلك عبر خفض أسعارها بشكل كبير، لتصبح في متناول مختلف شرائح الدخل، وهو الأمر الذي ساهم في زيادة كبيرة في أعداد المدمنيين بين الشباب السوري، وخصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها سوريا، وارتفاع نسب البطالة بين الشباب.
ورغم انتشار صناعة وتجارة المخدرات في كافة المناطق السورية؛ إلا أن مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا تُعتبر أقل نسبياً من باقي المناطق من حيث الاتجار والتصنيع المحلي للمواد المخدرة، إذ لا توجد تقارير تُشير لوجود معامل لانتاج المخدرات الصناعية في تلك المنطقة، وإنما لوجود زراعة للقنب الذي يستخدم في غالبه للاستهلاك المحلي، وأبرز مناطق زراعته هي عامودا واليعربية في محافظة الحسكة، وعلى طول نهر الفرات في محافظة دير الزور، وعين العرب (كوباني) في شمال-شرق محافظة حلب. إلا أن تلك المناطق كغيرها في سوريا تُعتبر سوقاً للمخدرات المصنعة، والتي تتدفق إليها من مناطق سيطرة المعارضة ولا سيما منبج ورأس العين ومناطق سيطرة الحكومة السورية المتاخمة لمناطق سيطرة الإدارة الذاتية والعراق عبر معبر اليعربية.
وتُظهر بيانات الإدارة الذاتية حول ضبطيات المخدرات لعام فائت حجم وأنواع المخدرات التي يتم الاتجار بها في مناطقها، إذ تم ضبط 3,092,742 حبة كبتاجون، وأكثر من 41 كيلوجرامًا من الكريستال الميثامفيتامين، وأكثر من 272 كيلوجرامًا من الحشيش، وأكثر من 16 ألف إبرة مخدرة، و275 سيجارة حشيش، وأكثر من 70 ألف حبة مخدرة من أنواع مختلفة. كما شملت المضبوطات 570 كيلوجرامًا من الهيروين، وأكثر من 35 كيلوجرامًا من الكوكايين، بالإضافة إلى 541 شتلة من نبات الحشيش، وكميات أخرى من مواد مختلفة وأدوات تعاطي.
ووفقاً للإدارة العامة لمكافحة المخدرات في (الإدارة الذاتية)؛ فإنها عملت خلال عام على (2387) ملفاً يتعلق بالمخدرات، جرى خلالها توقيف (3485) شخصاً من المتورطين. ولا تعكس تلك الأرقام الحجم الفعلي لتجارة المخدرات داخل مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، إذ تعتبر الهيئات الدولية المتخصصة بمكافحة تجارة المخدرات أن الحجم الفعلي لتجارة المخدرات في دولة أو منطقة ما يتراوح ما بين 5- 10 أضعاف حجم المضبوطات. وقد تكون تلك النسب أكبر بكثير في حالة الإدارة الذاتية نتيجة لضعف إمكاناتها وخبراتها في التعاطي مع هذا النوع من التجارة، إضافة إلى وجود تواطؤ بين تجار ومروجي المخدرات وبعض العاملين في الجهاز الأمني والعسكري للإدارة في مختلف مناطق سيطرتها، كما تشير العديد من التقارير والشهادات.
ويضاف إلى ذلك استفحال انتشار تعاطي المخدرات في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية بشكل غير مسبوق، مع ارتباط تلك الظاهرة بارتفاع معدلات الجريمة. ويمكن اعتبار أن الأجزاء الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية في محافظة الرقة تُعد الأكثر تضرراً من ظاهرة انتشار تعاطي المخدرات، والتي باتت تُشكل خطراً على جيل الشباب في المحافظة، وعلى السلم الأهلي فيها نظراً لما يرتبط بها من جرائم.
وعليه تسعى هذه الورقة لدراسة ظاهرة تعاطي المخدرات في الرقة، وتقدير حجم انتشارها وتحليل أسبابها، ومدى تأثيرها على المجتمع في المحافظة، وصولاً إلى تقديم توصيات عملية مبنية على وجهة نظر المجتمع الأهلي والمدني تُساهم في رسم ملامح استراتيجية شاملة لمكافحتها والحد من آثارها.
لقراءة الورقة كاملة: نحو استراتيجية شاملة