عمر خطاب – دير الزور
العودة إلى الديار هو الأمنية المنشودة التي لطالما حلم بها النازحون والهاربون من الموت الذي يحيط بهم من أماكن النزاعات والحروب إلى مناطق أكثر أمناً تاركين منازلهم وقوتهم، إلّا أنّ المفارقة الغريبة حينما يتحوّل هذا الحلم إلى كابوس يحمل معه فصل آخر من فصول المعاناة والألم.
إن مشكلة النزوح والتهجير القسري نتيجة الحرب يترتب عليها آثاراً جسمية وتفرض أنماطاً معقّدة على جميع جوانب الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة والصحيّة .
و كما أن للنزوح نتائجه وآثاره فإن العودة منه لا يتم بهذه السهولة المفترضة بل ينعكس أيضاً على حياة العائدين ومدى قدرتهم على التعافي من آثاره والتأقلم مع وطنهم القديم بمعالمه الجديدة المدمّرة وظروفه السيّئة التي طرأت عليه بسبب الحرب.
على الصعيد الاقتصادي :
بعد عودة مئات العوائل (1) من مخيمات النزوح في الريف الشرقي لدير الزور كانت المنطقة مدمّرة بشكل كبير، و اضطر الكثير من العائدين على إعادة بناء منازلهم أو ترميمها وفقاً لنسبة الدمار، وكل هذا على نفقتهم الخاصة في ظل غياب أي دعم من قبل المنظمات الدوليّة أو السلطات المحليّة، الأمر الذي حمّلهم أعباء اقتصاديّة كبيرة ألقيت على كاهل العائدين الذين استطاعوا بالكاد ترميم أو بناء منازلهم من جديد، ناهيك عن التحدي المباشر الذي يواجهه السكّان المحليّون والذي يتمثل في كيفيّة إعالة أنفسهم، وفي عدم قدرتهم على إنتاج المحاصيل بسبب نقص المواد والمعدات الزراعيّة وندرة فرص العمل أو مصادر دخل بديلة. إضافة إلى صعوبة تأمين المياه وموجة الجفاف التي تضرب المنطقة التي ضاعفت الحاجة إلى المياه مما اضطر السكان للاعتماد على صهاريج المياه باهظة الثمن.
في مقابلة مع مسؤول مدني في إحدى اللجان التابعة للإدارة الذاتية في ريف دير الزور الشرقي قال : “يعتبر الريف الشرقي لدير الزور في المنطقة الممتدّة من هجين حتى الباغوز هي المناطق الأكثر تضرراً في دير الزور كونها المعقل الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية، حيث جرت في هذه المنطقة معارك كبيرة تسبّبت بدمار واسع في المنطقة، وأستطيع القول أن نسبة الدمار كانت في 2019 أكثر من (80%) بشكل جزئي و (40%) بشكل كامل، و نسبة ما يحتاج إلى ترميم (30%)، إضافة إلى دمار كبير في المدارس والمنشآت التعليميّة، و قد ساهمت عدة منظمات محليّة و دوليّة و برامج دوليّة بإزالة الدمار و بقايا الحطام إلا أنّ مساهمة الأهالي العائدين كانت الأكبر في إزالة الدمار، و ترتّب على ذلك تكاليف اقتصاديّة باهظة”.
في حين وصف مسؤول مدني آخر في مؤسّسة تابعة للإدارة الذاتيّة في دير الزور الوضع الاقتصادي بالنسبة للعائدين من النزوح دير الزور “بالكارثي في عموم المحافظة” وأرجع ذلك بحسب رأيه إلى ” قلة فرص العمل المتاحة و غياب أي دعم مادي أو معنوي يمكن له أن يسد العجز الاقتصادي الذي تعاني منه الأُسر العائدة والبطالة بسبب تدمير كافة جوانب البنية التحتيّة في المنطقة نتيجة الحرب”.
أبو أحمد من مدينة الشعفة عاد إلى مدينته مؤخراً ليجد منزله ومحل النجارة والموبيليا الذي يملكه بمعداته قد تدمّر وهو اليوم عاطل عن العمل مثله مثل الكثير من أبناء المنطقة يتحدث عن معاناته بعد عودته من النزوح “لولا دعم المغتربين في الخليج و ألمانيا لكان الوضع بالنسبة لي أسوأ وخاصة مع عدم وجود أي دعم من قبل المجالس المحليّة والمنظمات الدوليّة”.
يشكّل اليوم دعم المغتربين في المنطقة الوارد المالي الأهم في المنطقة و تعتبر الحوالات الماليّة الدخل الأساسي لعدد كبير من الأُسر في الريف الشرقي لدير الزور.
يضيف أبو أحمد “لا نعرف كيف نبدأ من جديد، لقد أنفقنا كل الأموال التي كانت بحوزتنا خلال رحلة النزوح التي امتدت لسنوات ونحن بحاجة إلى دعم مالي لشراء المواد والآلات الزراعيّة حتى نتمكن من البدء من جديد والاعتماد على أنفسنا لإعادة بناء حياتنا و مزارعنا وقريتنا مرة أخرى“.
قال الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش في تقريره(2) المقدّم إلى مجلس الامن والخاص بتمديد العمل بالقرار (2585) الخاص بإدخال المساعدات الإنسانيّة إن (2.7) مليون يعيشون في شمال شرق سوريا منهم (2.2) يحتاجون للمساعدات الإنسانيّة بينهم نصف مليون نازح و يعيش (140) ألف شخص في مخيّمات منها مخيّم الهول الذي يضم وفقاً للأمين العام (57588) شخص.
على المستوى الصحي و النفسي :
لا يختلف الحال بالنسبة للوضع الصحي والنفسي بالنسبة لمجتمع العائدين من مخيمات النزوح، إذ تفرض الظروف الجديدة واقعاً ثقيلاً على أفراد الأسرة وخاصة النساء والأطفال، ما يترتب عليها آثاراً نفسيّة نتيجة لتنقلهم و عدم اعتيادهم على البيئة الجديدة، خاصة أنّ البعض أمضى سنوات في المخيّم وما يرافق ذلك من مشاكل مثل السّكن و الوضع الاقتصادي ، وعدم القدرة على التكيّف على ظروفه والعيش بداخله مما خلق حالة من: (القلق، والتوتر، والخوف) نتيجة معاناتهم الكبيرة في بعض المخيّمات علاوة على المعارك التي شهدوها سابقاً وترتّب عليها صدمات نفسيّة يعاني العائدون من آثاراها إلى الآن.
تقول أم خليل “لقد عانينا في المخيّم من الخوف و الكبت على مدار سنوات، كل تصرّف محسوب علينا، لقد شاهدت في إحدى أيام إقامتي في المخيّم جثّة فتاة عراقيّة تم قتلها و التنكيل بها و لا يمكنني نسيان تلك الصورة حتى الآن، ولا تزال تراود ابني الصغير بعض الكوابيس حول مقتل عدد من الأشخاص وبخاصة عندما شاهد امرأة مقطوعة الرأس “.
وبحسب أبو علاء و هو صيدلي في منطقة الباغوز “ما يدل على هشاشة الوضع الصحي في المدينة هو عدم القدرة على مساعدة طفلة صغيرة تبلغ من العمر ثلاثة أشهر أصيبت بالحمى، لم نتمكن من الوصول إلى أقرب مشفى يقع على بعد (12) كم بسبب الوضع الأمني غير المستقر نسبياً، ناهيك عن انتشار الأمراض الجلديّة التي سببتها الجثث المنتشرة في الباغوز في مقابر جماعيّة عشوائيّة” .
دير الزور الريف الغربي – ناحية الكسرة – مستشفى الكسرة
على الصعيد التعليمي و التربوي :
يعد التهجير والنزوح نتيجة النزاعات من أهم الأسباب التي تزيد من التسرّب الدراسي وعدم التحاق الأطفال بالمدارس، إذ تعمد الأُسر العائدة من المخيّمات إلى توجيه أبنائها إلى سوق العمل بسبب سوء الوضع الاقتصادي وهذا على حساب التعليم.
وبحسب أرقام نشرتها اليونيسيف (3) أكثر من 2 مليون طفل – أي أكثر من ثلث الأطفال السوريين – هم خارج المدرسة، ويواجه (1.3) مليون طفل خطر التسرب. ويحتاج واحد من بين ثمانية أطفال في كل صف دراسي إلى دعم نفسي واجتماعي مختصّ، لتحقيق التعلّم الفعال.
وتشير هذه الإحصائيّات إلى مستقبل يشوبه الغموض للأطفال في عموم سورية(4)، واتضحت مؤشراته من خلال زيادة معدّل(5) ارتكاب الجرائم(6)، وانتشار تعاطي المواد المخدّرة(7) والاتجار بها، في ظل تراخي شبه مقصود من الأطراف المسيطرة على تلك المناطق لغايات وأسباب متداخلة.
تتحدث عبير (اسم مستعار) هي مدرّسة في منطقة السوسة واقعة شرق ديرالزور عن الوضع التعليمي في المنطقة “تعاني المدينة من نقص الكوادر التدريسية و كثرة المدارس المدمرة، إضافة إلى عدم استيعاب الفصل لجميع الطلاب الذين يجلس بعضهم على الأرض وعدم توفر المستلزمات التعليمية لهم، أيضا يشكل التسرب من المدرسة و الاتجاه نحو العمل تهديدا كبيرا للطفولة في ظل غياب أي دعم سواء رسمي أو من قبل المنظمات المعنية وبالأخص اليونيسيف”
و بحسب تصريحات تيد شايبان(8) مدير مكتب اليونيسف الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي شدّد على ضرورة مراعاة الإنصاف في التعليم وإعادة فتح المدارس لضمان عودة جميع الأطفال إليها، لا سيّما الأطفال المهمشّين والأكثر فقراً وأضاف: “يجب أن نبني أيضاً قدرات المعلّمين وأن نحضّرهم للتعاطي مع الأطفال ما بعد الأزمة ومع احتياجاتهم النفسيّة والاجتماعيّة، كما مساعدة المعلمين على تعويض الدروس التي خسرها الطلاب خلال فترة انقطاعهم عن المدرسة”.
على الصعيد الاجتماعي :
يشكّل صعوبة التكيّف الاجتماعي عائق إضافي أمام العائدين من المخيّمات وذلك لضعف البنى التحتية لتلك المناطق وعدم توفّر الخدمات الرئيسيّة و فرص العمل الأمر الذي قد يدفع بعض العوائل الى الهجرة إمّا الى خارج البلد أو الانتقال الى مناطق أكثر أمناً وتوفّر بعض الخدمات وهو ما حدث لعوائل في ريف دير الزور الشرقي انتقلت الى أماكن أخرى تتوفّر فيها المقوّمات الأدنى للحياة.
في حين تواجه الأُسر العائدة من المخيّمات و بالأخص مخيم الهول صعوبات أكثر وأشد تعقيداً، وذلك لأن من أهم مؤشّرات التكيّف الصحي للفرد خلوه من الأمراض (الجسمية ،والعقلية، والانفعالية) الأمر الذي يعود عليه بالرضى وتقبل نفسه أولاً، وتقبل ورضا المجتمع ثانياً.
خلال السنوات الماضية أطلقت الأمم المتحدة عدد من المبادرات(9) لدعم العائدين من المخيّمات في سوريا و العراق، الهدف منها يتمثل بـ “الاستجابة والمساعدة باحتياجات الأطفال والبالغين الذين يحتاجون إلى الحماية، ودعم الدول الأعضاء لتعزيز الأمن ومعالجة المساءلة من خلال عمليات المقاضاة وإعادة التأهيل وإعادة الإدماج”. وأكّدت أنّ كل الدعم يرتكز على الأطر القانونيّة الوطنيّة ويتوافق تماماً مع القانون الدولي، بما في ذلك حقوق الإنسان الدوليّة والقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي للاجئين.
وتبقى هذه البرامج تعمل في إطار المساهمة في التماسك المجتمعي و مشروع المصالحة المجتمعية وإعادة الدمج وتهيئة المجتمع لعودة وإعادة دمج النازحين والعائلات التي وصمت بسبب ارتباط أحد أفرادها بتنظيم الدولة الإسلامية ، والتي غالبا تكون هذه الأكثر تهميشا وهشاشة، والتركيز على دعم للأسر العائدة من المخيم والذي يجب أن يكون أولويّة لدى الجهات الدوليّة الداعمة.
- نازحون أُجبروا على ترك مخيّماتهم في مواجهة مصير مجهول – منظمة العدالة من أجل الحياة – كانون الأول/ديسمبر 2021.
https://jfl.ngo/%d9%86%d8%a7%d8%b2%d8%ad%d9%88%d9%86-%d8%a3%d9%8f%d8%ac%d8%a8%d8%b1%d9%88%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%aa%d8%b1%d9%83-%d9%85%d8%ae%d9%8a%d9%91%d9%85%d8%a7%d8%aa%d9%87%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%88/
- غوتيريش يكشف أرقام المأساة السوريّة: 90% من سكانها فقراء – الرق الأوسط – 12 كانون الثاني/يناير 2022
- الأزمة السوريّة: حقائق سريعة – يونيسيف – آب/أغسطس 2019
الأزمة السورية: حقائق سريعة | UNICEF الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
- التعليم في شمال شرق سوريا. واقع متأزم وحلول قاصرة – مركز أبحاث ودراسات مينا – تشرين الثاني/نوفمبر 2020
التعليم في شمال شرق سوريا .. واقع متأزم وحلول قاصرة – مركز أبحاث ودراسات مينا (mena-studies.org)
- دير الزور: تنامي المخاوف المحليّة بعد سلسلة حوادث نتيجة “الفلتان الأمني” – منظمة العدالة من أجل الحياة ونظّمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة – نيسان/أبريل 2021
- دير الزور: مظاهرات وانتشار للجريمة وارتفاع حاد في الأسعار – منظّمة العدالة من أجل الحياة – حزيران/يونيو 2020
https://jfl.ngo/%d8%af%d9%8a%d9%80%d9%80%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%80%d9%80%d9%80%d8%b2%d9%88%d8%b1-%d9%85%d8%b8%d8%a7%d9%87%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%88%d8%a7%d9%86%d8%aa%d9%80%d8%b4%d8%a7%d8%b1-%d9%84%d9%84%d8%ac%d8%b1/
- انتشار تعاطي الحبوب المخدّرة في دير الزور – منظّمة العدالة من أجل الحياة – أيلول/سبتمبر 2018
- اليونيسكو وشركاؤها ينظّمون حواراً إقليميّاً في مجال السياسات حول إعادة فتح المدارس في المنطقة العربيّة – موقع اليونيسكو – أيار/مايو 2020.
- الأمم المتحدة تطلق مبادرة لدعم عودة العالقين في مخيّمات سوريا والعراق – موقع أخبار الأمم المتحدّة -أيلول/سبتمبر 2021