نور الأحمدْ – الحسكة
لم تيأس أم علي يوماً من فتح صنبور المياه الرئيسي الموجود في منزلها بمدينة الحسكة، علّها تجدهُ هذه المرة يقطّر ولو بعض قطرات من المياه الصالحة للشرب، تروي بها عطشها وعائلتها وتذهب لعملها بعد حمام بارد في هذه المدينة الصحراوية الجافة.
أم علي مثل الكثير من سكان هذه المدينة، تأمل أن تعود المياه إلى بيتها بعد انقطاع متكرر إلى أن أصبح اليوم ومنذ عام تقريباً شبه دائم، وذلك بسبب قطعها من مصدرها الأساسي في محطة آبار علّوك في ريف رأس العين الواقعة ومنذ عام 2019 تحت سيطرة القوات التركية والفصائل الموالية لها.
يخالف هذا القطع اتفاقية تقاسم حصص المياه وتوزيعها بين تركيا وسوريا والعراق عام 1987، كما أنه يخالف موجز السياسات القائم على القضاء على التمييز وحالات عدم المساواة في الوصول إلى المياه وخدمات الصرف الصحي الصادر عن الأمم المتحدة عام 2015.
الحكومة السورية تتهم تركيا بالاستيلاء على أكثر من نصف حصة سوريا التي يجب أن لا تقل عن 500 متر مكعب في الثانية حسب البروتوكول المتفق عليه مع الجانب التركي في عام 1987، في حين يتم حالياً ضخ نحو 200 متر مكعب فقط.
بحسب شكوى مقدمة من عدة منظمات إلى المقرر الخاص المعني بالحق في المياه وخدمات الصرف الصحي في الأمم المتحدة فإن حبس المياه عن مدينة الحسكة من قبل القوات التركية والفصائل الموالية لها، بدء منذ العام 2019 بقطع المياه عن محطة علوك في مدينة رأس العين، ووصل إلى 36 قطع حتى حزيران/يونيو 2023.
تلجئ أم علي وسكان مدينة الحسكة لحلول بديلة لتأمين المياه، يحفر بعضهم آباراً لاستخراج المياه الارتوازية أمام منازلهم، لكن هيئة الزراعة والري في الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا أصدرت قراراً بمنع حفر الآبار في شهر نوفمبر- تشرين الثاني عام 2022، وذلك حفاظاً على مخزون المياه الجوفية في تلك المناطق.
يقول علي السلمان، أحد سكان حي العزيزية في الحسكة في حديثه لنا:
” مياه البئر تساعدنا في الغسيل والتنظيف وسقاية نباتاتنا، هي ليست صالحة للشرب لكنها تعيننا على الاستمرار قليلاً في هذه الحياة الجافة.” وهو ما يساعد الأهالي عن تعويض الانقطاع التام بحسب علي.
يشتري علي مياه الشرب مرة أو مرتين في الأسبوع، حيث يعتقد أن هذه المياه التي يشتريها من باعتها الذين يجلبونها من قرية نفاشة شرق مدينة الحسكة، أو من مناهل الحمّة، ليست صالحة للشرب 100%.
يتوقع مختصون أنّ هذه المناهل التي تُجلب منها المياه لتُباع لسكان المدينة، ستجف قريباً بسبب زيادة ضغط استهلاك المياه منها، وهو تحد آخر لما يقارب المليون إنسان يعيشون في مدينة الحسكة اليوم.
الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي يشكل شرطاً أساسياً لعيش حياة كريمة وحقاً أساسياً للسكان، بموجب الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لكن وللأسف مليارات الأشخاص لا يزالون لا يتمتعون بهذه الحقوق الأساسية، ومنهم سكان مدينة الحسكة.
بعد إعلان الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، شهر تموز/يوليو الفائت، مدينة الحسكة كمدينة منكوبة، ظهرت حملات عشائرية لا ترتبط بأي جهة رسمية قام بها كل من أهالي دير الزور والرقة لمساعدة أهالي المدينة وتزويدهم بصهاريج مياه صالحة للشرب. يقول أسعد عساف وهو واحد من القائمين على ما سميت ب “فزعة دير الزور” أنّ الحملة جاءت نتيجة مناشدة أهالي مدينة الحسكة لهم لتزويدهم بالمياه.
هناك عدّة حملات أخرى قامت بها منظمات إنسانية، زودت المدينة بخزانات مياه في كل شارع تقريباً ويتم ملؤها بشكل شبه يومي لكنها لا تكفي لمنزل واحد، فيتشاجر عليها السكان، الأمر الذي يُؤثر سلباً على السلم الأهلي، علاوة على تأثيره على صحة هؤلاء الجسدية بسبب ثقل الكمية التي ينقلونها وبعد المسافة عن منازلهم-هنّ.
حاولت الإدارة الذاتية استجرار مياه من نهر الفرات ولكن لم يكتمل ذلك المشروع، وقد أعلنوا مطلع الشهر تموز/يوليو 2023 عن مشروع جديد يتضمن تزويد المدينة بالمياه من ناحية عامودا الحدودية، لكن لم يرى المشروع الضوء بعد.
يوفر القانون الإنساني الدولي والقانون البيئي الدولي الحماية لإمكانية الحصول على مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي. وتبين اتفاقيات جنيف (١٩٤٩) وبروتوكولاتها الإضافية (١٩٧٧) ما للحصول على مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي من أهمية أساسية للصحة والبقاء في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.
قال الرئيس المشترك لمديرية المياه في الإدارة الذاتية عيسى يوسف: “أن هناك كارثة إنسانية وشيكة فيما لم يتم إيجاد حل لأزمة المياه في المدينة، وأن السبب بعدم استكمال مشروع استجرار المياه من نهر الفرات هو انخفاض في منسوب المياه، ونحن لا نستطيع إلى الآن إيجاد حل لتأمين 140 ألف متر مكعب من المياه يومياً وهي حاجة سكان المدينة منه”
يأمل يوسف أن يكون مشروع عامودا لتزويد مدينة الحسكة بالمياه ناجح ويغطي القليل من النقص، وأنهم سيسعون لإنجازه بأسرع وقت ممكن، يتوقع اليوسف أيضاً أنّ هناك مؤشرات لانفراج قريب لأزمة محطة علوك، وذلك بعد تدخلات دولية لتحييد أزمة المياه ولكن إن تمت ستكون بعد الانتهاء من أعمال صيانة الآبار ال18 المتبقية في محطة الحمّة من أصل 33 بئر.
لم تقتصر أزمة المياه في مدينة الحسكة على عطش سكانها وتضرر الأراضي الزراعية وتراجع الثروة الحيوانية، بل وشمل الانقطاع الطويل الأمد هذا إلى التسبب بأمراض عدة ومنها الكوليرا والتهاب الأمعاء الحاد، خاصة للأطفال
حيث أكدّ المركز الطبي المحدّث في المدينة على أنّه يستقبل حالات مصابة بشكل يومي، والسبب بحسب الأطباء هناك يعود لاستخدام الأهالي مياه مجهولة المصدر للشرب أو لجوء الأطفال من شدّة العطش للإرتواء من أيّ صنبور مياه يجدونه أمامهم.
أشار التعليق العام رقم 15 للجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن لكل فرد الحق في الماء والذي عنصراً أساسياً للتمتع بحياة كريمة وعاملاً حيوياً لإعمال العديد من الحقوق الأخرى مثل الحق في الصحة والحياة والتمتع بمستوى معيشي لائق.
كما وقدمت اللجنة إرشادات مفصّلة للدول بشأن التزاماتها باحترام الحق في الماء وحمايته والوفاء به. كذلك أشارت إلى أن هذا الحق يتضمن أن لكل شخص الحق في الحصول على المياه بالكميات الضرورية التي تلبي احتياجاته الأساسية.
وفي حين أن الحد الأدنى من كمية المياه المطلوبة تختلف باختلاف السياق (بما في ذلك الوضع الصحي، والمناخ، وظروف العمل) عادة ما تتضمن الاستخدامات الشخصية والمنزلية للماء الشرب والصرف الصحي الشخصي وغسيل الملابس وإعداد الغذاء والنظافة الشخصية والمنزلية، إلا أنها ورغم اختلاف كميتها فهي حق لا يجب الاستهانة به.
وكانت 110 منظمات سورية قد طالبت في بيان باتخاذ التدابير اللازمة لاإجياد حل مستدام لأزمة المياه في شمال وشرق سوريا.
رغم أن المياه قد تم ضخها لمرة واحدة على مدينة الحسكة مؤخراً بعد انقطاع لأشهر، وذلك بتدخل اليونسيف وحكومة دمشق، لكن وبحسب سكان المدينة، فإن استدامة الضخ هو ما يتمنونه، لا أن تأتي لمرة واحدة ويطالبون كل المعنيين من سلطات أمر الواقع والمنظمات الإنسانية، أن يجدوا حل بأسرع وقت لإنقاذهم من هذه المحنة التي طال أمدها.