عن المدينة التي تموت جوعاً..
في تلك المدينة الصحراوية على ضفاف الفرات حيث مدارج الصبا، كانت العزلة صبغة أساسية، وكان من انفكوا من إسارها مشدودين برباط وثيق إلى إثبات تحررهم بطريقة لا تفعل أكثر من تأكيد تمكن العزلة في قعر نفوسهم. فمن انتهجوا نهج الانسلاخ عن تقاليد المدينة القارة فيها عبر أجيال لم يكونوا قادرين على إثبات انسلاخهم إلا بممارسة التعالي على من لم يبذلو جهداً للانسلاخ، أو لم يرغبوا فيه، ومن أنغمسوا في تكريس الانتماء الكلاسيكي أسرفوا في توجهات عزلتهم أكثر عن المزاج العام. ظل المتحررون يفاخرون أنهم أول من سن سنة معاقرة الخمر، وبالغ المتسلفون في سلفيتهم حتى لفظهم الناس، وأسرف المتصوفة حتى ابتدعوا أكثر مما ابتدع غيرهم، أما من اختطوا نهجاً ثقافوياً فقد صعدوا برجاً عاجياً وصاروا يتحدثون بلغة لا يفهمها الناس. كرس النظام من ثمّ عزلة سياسية، ورسّخها عبر انقسام حضري ريفي، ولم يعدم بذوراً موجودة سلفاً ساعدته في مسعاه. وليس من قبيل المصادفة أن يتضور من عزلوا جوعاً اليوم، فالمنتمون إلى الأصناف المذكورة آنفاً هم أول من بادر إلى ترك المدينة تعرى وتجوع، وتقف لوحدها في مواجهة الغرباء. غرباء قدموا من أصقاع الأرض لكي يقسروا الناس على النكوص مئات السنين والنظام الذي لا تربطه أي صلة بالشعب والوطن.