يضيق أفق الحياة الاجتماعية أمام العائلات الهاربة من مناطق الصراع المسلح في سورية إلى مناطق الإدارة الذاتية الأكثر أماناً واستقراراً ، وخاصة خلال تعاملها مع سجلات المحاكم الشرعية والسجلات المدنية والتي تعتبر من أعقد الأمور لتلك العائلات .
وفي خضم الصراع الطويل والدامي في سورية ، تشرد أبناء دير الزور بين نازح في المدن السورية الأخرى أو لاجئ في بلاد الجوار أو مهاجر إلى أوروبا ، وبين المناطق التي نزحوا إليها في محافظة الحسكة .
وتقدر الجمعيات الإنسانية وجود 55 ألف عائلة ، وصلت إلى مناطق الإدارة الذاتية في محافظة الحسكة من مدن حلب والرقة وحمص ودير الزور ، تتوزع بين مدينتي الحسكة والقامشلي والتي تتقاسم وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي والقوات النظامية السيطرة عليهما ، إضافة إلى تواجد مؤسسات مدنية للدولة السورية وأخرى للإدارة الذاتية .
يشار إلى أن الإدارة الذاتية تمتلك سجلات مدنية ومحاكم شرعية ، إلا إن ما يصدر عنها لا يتعدى كونها أوراق يتم تداولها ضمن مناطقها فقط ، ومع الإبقاء على عمل مؤسسات النظام والدوائر الخدمية في مدينتي الحسكة والقامشلي ، يصطدم الوافدون برفض القائمين عليها بتسيير معاملاتهم ، وهو ما أكده أحد موظفي العدلية لأحد الوافدين قائلا : تقاتلون النظام في دير الزور وترغبون باستخراج مستنداتكم من دوائر الدولة في الحسكة .
ومع زيادة حدة الصراع المسلح بين وحدات حماية الشعب التابعة للإدارة الذاتية والقوات النظامية حول نقل دوائر الدولة خارج المحافظة ، وبعد سيطرة هذه الوحدات عسكريا على أجزاء واسعة من المحافظة غدا مصير آلاف الموظفين والطلبة في خطر من حيث السجلات المدنية ، فكيف سينظر لطفل بلا نسب ؟ .
وفي هذا الإطار .. التقى مرصد العدالة من أجل الحياة في دير الزور بأربعة شهود ، يمثلون حالات مختلفة من المدنيين النازحين من دير الزور والذين لم يستطيعوا تسجيل عقد زواجهم أو أولادهم :
-“حازم” الذي تزوج في القامشلي ، لكنه لم يستطع الحصول على الأوراق المطلوبة من السجلات المدنية في الحسكة والقامشلي ، حيث يقول : طُلِب مني السفر إلى دير الزور لمراجعة السجلات المدنية ، وهو أمر مستحيل لأن السفر إلى الأحياء المحاصرة ، هو ضرب من الخيال والغاية من هذا الطلب هو التعجيز” .
وأوضح حازم قائلا : “استطعت الحصول على شهادة تعريف لي ولزوجتي من المختار ، وحين ذهبت للمنظمات الدولية والمحلية الإغاثية والخيرية للحصول على المساعدات ، فإنهم لم يعترفوا بزواجي لأنه غير مسجل قانونا” .
وأضاف ” ذهبت إلى مكتب تسيير الأوراق وتعقيب المعاملات في مدينة القامشلي للحصول على إخراجات القيد الفردية وورقة شعبة التجنيد ، فطلب مني المكتب مبلغ 15 ألفا على كل إخراج قيد فردي ، و25 ألفا على ورقة التجنيد مع الانتظار فترة طويلة ، وبعد ذلك يعين محامي بتكلفة 35 ألف ليرة للحصول على ورقة تثبيت زواج ، لافتاً إلى أن الدوائر الحكومية تسمح وبشكل استثنائي للعسكريين من خارج محافظة الحسكة ، بإجراء التسجيل وتثبيت الزواج وحصولهم على إخراجات قيد ” .
-“أبو مصعب” استطاع ان يحل المشاكل التي اعترضت “حازم” لقدرته المالية ، حيث استطاع تثبيت عقد زواجه في المحكمة الشرعية بمدينة القامشلي ، إلا أنه لم يستطع تثبيته في سجلات الأحوال المدنية ، فبقي هو وزوجته في السجلات الرسمية غير متزوجين .
ويقول أبو مصعب : إن المشكلة تجددت مع مولودنا الأول الذي لم يجد من يسجله في قيود السجلات المدنية ، بعد رفض مديرة السجلات المدنية في القامشلي ومدير الأحوال المدنية بالحسكة ، نظرا لأنني لم أستطع تثبيت زواجي في السجلات الرسمية ، ليبقى مصير الطفل مكتوم القيد كحال العشرات من الأطفال .
ويوضح أبو مصعب أن معاناة النازحين تزداد مع صعوبة السفر إلى العاصمة دمشق ، إما لأسباب تتعلق بالاعتقالات اليومية من قبل قوات القوات النظامية واقتياد الشباب إلى الخدمة الإلزامية والخدمة الاحتياطية ، أو لأسباب تتعلق بعدم القدرة المادية للكثير من العائلات ، فتذكرة السفر بالطائرة من مطار القامشلي إلى مطار دمشق 40000 الف ليرة سورية ذهاباً وإياباً ، إضافة إلى أن أبواب السجل المدني بدمشق لا تستقبل الوافدين من ديرالزور إلا يوم الأحد من كل أسبوع ولمدة ساعتين أو ثلاثة فقط |، فيما اجراءات التسجيل والحصول على دفتر عائلي تتطلب مالايقل عن شهر ، فكيف إن كانت مراجعة نوافذ الأحوال يوما في الأسبوع ، فإن تكاليف الإقامة الباهضة في فنادق العاصمة لا تقوى عليها الكثير من العائلات مع تذاكر الطائرة ذهابا وإيابا .
-“أم ماريا” طلبت من المحامية ( ه . أ ) تثبيت زواجها وتسجيل ابنتها الوحيدة ماريا البالغة من العمر أربعة أشهر للحصول على دفتر عائلة ، فتجيبها المحامية بالقول : انظري إلى تلك الرفوف ، فهي ممتلئة بالطلبات منذ عام وأكثر ، وبلا مجيب لنا من قبل الأحوال المدنية بدمشق .
وتوضح أم ماريا : “توجهت إلى أحد مكاتب تسيير المعاملات في القامشلي للحصول على الأوراق المطلوبة والحصول على دفتر عائلي ، فطلب مني 300 ألف ليرة وهو مبلغ تجاوز مهري يوم زفافي .
-“نبال” تقول :”هاجر زوجي إلى المانيا وهو لا يحمل أي ثبوتيات زوجية ، لأنه لم يستطع تثبيت زواجنا بالمحكمة الشرعية أو الحصول على قرار لتثبيته في السجلات المدنية بالحسكة ، ما كان له نتائج سلبية حيث لم يستطع زوجي القيام بإجراءات لم الشمل للعائلة ، وقد نضطر للذهاب إلى تركيا لنلتقي هناك ، لكن ستبقى مشكلة اثبات الزواج وتسجيل الطفلة معضلة كبرى للم شمل العائلة في ألمانيا ، والسبب في ذلك أنه لم يسمح لنا بتثبيته في السجلات المدنية بالحسكة .
أما من بقي من الأهالي المدنيين بدير الزور تحت رحمة الطائرات الحربية القادمة من شتى بقاع الأرض واستبداد تنظيم الدولة ، فإن الحكاية ستبدأ بوجود مئات الأطفال في دير الزور مكتومي القيد وغير مسجلين في قيود السجلات المدنية ، مما يهدد بفقدان النسب والحرمان من الحقوق المدنية وحق التعليم ، وربما من حق الجنسية ، فمعظم الأطفال حديثي الولادة في المدينة أو أريافها أصبحوا الآن مكتومي القيد .
وتتزايد الكارثة مع ظهور حالات زواج لمهاجرين التنظيم من بعض النساء في أرياف دير الزور ، وكل ما هنالك ورقة بحضور القاضي الشرعي للتنظيم مع وضع اسم مستعار للزوج مثل “أبو البراء التونسي” ، حيث لا يعلم للزوج لا اسم ولانسب ، وأولاد مجهولي الهوية قد ترغمهم الأيام بالبحث عن أنسابهم .
وفي حال عدم حل مشكلة الأطفال مكتومي القيد ، فإن الحياة ستزجهم هروبا من واقعهم نحو التطرف والتشدد ، مثل آبائهم بينما يبقى للزوجة قدر غريب بعد أن يضطر المهاجر للانسحاب مع مقاتلي التنظيم إلى خارج حدود تواجده ، وربما يهرب المهاجر فيبقى مصير الزوجة برسم المجهول ، بينما يقوم بعض المستفيدين الماليين من هذا الوضع من بيع بعض الأهالي دفاتر عائلية مزورة يكتب عليها ما يشاء ، فيما ستزداد تلك الكارثة الإنسانية مع ازياد الزواج بين الأهالي والولادات التي لا تجد المنقذ الحقيقي لها .
وختاما .. فإن سنوات النزاع أبقت المتزوجون بلا وثائق رسمية تثبت زواجهم ، مما سيفقدهم حقوقهم على الأمد الطويل ، فيما سيسلب في المستقبل من الأطفال مكتومي القيد وبلا هوية حقوق المواطنة وحق التعليم وربما حق الجنسية ، وهو ما ظهر لدى بعض من دخل بسن الحصول على الهوية الشخصية ممن تجاوز ال 18 عاما بعد نزوحهم ، وهو ما سبب لهم مشكلة كبيرة خصوصا بحق التعليم والتنقل ، فهم لا يملكون أي اثبات يسمح لهم بالتنقل والسفر أو التسجيل في الجامعات السورية .