سيطرت قوات سوريا الديمقراطية مدعومة بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية على أجزاء من محافظة دير الزور عام 2017، إثر معارك مع تنظيم الدولة “داعش”، امتدت على مراحل، كان آخرها معركة الباغوز 2019، لتُعلِنَ مناطق سيطرتها في الريفين الشرقي والغربي من المحافظة كإقليم تابع للإدارة الذاتية لشمال شرق سورية. ولم يمضِ وقت طويل على تلك السيطرة حتى بدأت تبرز المنطقة كأكثر أقاليم الإدارة الذاتية إشكاليّة وتعقيداً على المستوى الأمني، ساهم في ذلك عوامل عدة، على رأسها: استمرار نشاط خلايا التنظيم في بعض المناطق، مقابل شكل ومستوى الإدارة المفروضة. فقد أدى تفاعل تلك العوامل إلى إنتاج إشكاليات مُركّبة على المستوى (الخدمي، الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي، العسكري)، والتي انعكست أمنياً بصور مختلفة ضمن البيئة المحلية، بداية من الاحتجاجات السلمية التي شهدتها عدة قطاعات على مدار السنوات الماضية، مروراً بصراعات بين مكونات “قسد” العسكرية في المنطقة (مجلس دير الزور العسكري)، وصولاً إلى الصدامات الأخيرة بين “قسد” والحراك العشائري المُسلَّح.
ساهم تداخل تلك الإشكاليات وما أفرزته من آثار؛ في تكريس الهشاشة الأمنية وحالة عدم استقرار في المنطقة. فبالرغم من انتهاء الصراع المُسلَّح مع “القوى العشائرية” لصالح “قسد” التي أعادت فرض سيطرتها؛ إلا أن نتائجه لا زالت تتفاعل بأشكال مختلفة، ما دفع الإدارة الذاتية بتاريخ 22 تشرين الأول 2023 إلى إطلاق مؤتمر عام، تحت عنوان “تعزيز الأمن والاستقرار”، كمبادرة تعهّدت خلالها بإصلاح مختلف القطاعات وجوانب الحوكمة والأمن في المنطقة، وما يتعلق بها من إشكاليات مباشرة على السكان. وما تزال مخرجات المؤتمر وتعهداته في إطار الدراسة وتشكيل اللجان دون ترجمة عملية على أرض الواقع، وسط قلق من السكان المحليين بعدم الالتزام التام بتنفيذها.
وفي هذا السياق، يبرز القضاء في دير الزور كأحد أهم القطاعات الإشكاليّة في المنطقة، وذلك لما له من انعكاسات أمنية واقتصادية واجتماعية وحوكمية ضمن البيئة المحلية، خاصة وأن تجربة القضاء في المنطقة مرَّت بمراحل مختلفة بحسب القوى العسكرية المتعاقبة، لتستقر أخيراً وفقاً لشكل النظام القضائي المُتَّبع في الإدارة الذاتية لشمال شرق سورية، ممثَلاً بنظام العدالة الاجتماعية وما يتبع له من مؤسسات وهيئات. وقد انطلقَت تلك التجربة في دير الزور نهاية العام 2018 بداية 2019، وخضعت لتطورات عدة لم تخل من العقبات والانتقادات الموجَّهة للهيكلية وآليات العمل ومستوى الاستقلالية والفاعلية، خاصة وسط اعتماد قسم من السكان على بدائل قضائية مُتمثِّلة بالقضاء العرفي/العشائري ومحاكم الحكومة السورية المنتشرة في مناطق سيطرتها ضمن محافظة دير الزور أو في المحافظات الأقرب كالحسكة.
وعليه، تسعى هذه الورقة إلى استطلاع واقع الجهاز القضائي التابع لـلإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في دير الزور، وتشخيص أبرز إشكالياته التي تعيق تطبيق وظائفه وتحول دون مستوى الفاعلية المتوقَّع ضمن البيئة المحلية وخصوصيتها. وذلك، من وجهة نظر الخبراء العاملين في مؤسسات القضاء من أبناء المنطقة (قضاة، محامون، أعضاء لجان صلح)، مقابل ممثلي منظمات المجتمع المدني العاملة في المنطقة، إضافة إلى ممثلين عن المجتمع المحلي (وجهاء، شيوخ عشائر)، بهدف بناء توصيات واقعية قابلة للتنفيذ حول أولويات الإصلاح القضائي المطلوب في المنطقة، بشكل يُعزِّز من دوره كأحد أعمدة الحوكمة الرشيدة وبناء الاستقرار المستدام على مختلف المستويات. ويتلخّص سؤال البحث الرئيس في: ما واقع الجهاز القضائي التابع للإدارة الذاتية ضمن مناطق سيطرتها في دير الزور، وما أبرز إشكالياته على مستويات: البُنية والهيكلية، الموارد البشرية، الفاعلية، الاستقلالية؟
وللإجابة عن سؤالها الرئيسي وتحقيق أهدافها، استندت الورقة إلى نوعين من مصادر البيانات، والتي توزَّعت وفقاً لما يلي:
- مصادر أوليّة: اعتمدت الورقة على جلسات التركيز كمصادر أولويّة للبيانات، حيث عَقَدَت منظمة العدالة من أجل الحياة ثلاث جلسات خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2024، توزَّعت على مناطق ريف دير الزور الغربي والشمالي (البصيرة، الكسرة، محيميدة). وقد شارك في كل جلسة عينة من 8 أشخاص موزَّعين على عدة شرائح معنيّة، على رأسها: القضاة والمحامين وممثلي لجان الصلح من العاملين في ديوان العدالة الاجتماعية والهيئات التابعة له في دير الزور، أعضاء مجلس تشريعي، ممثلين عن منظمات المجتمع المدني في المنطقة، إضافة لممثلي المجتمع المحلي من وجهاء وشيوخ العشائر، وراعت العينة قدر الإمكان التمثيل الجندري ومشاركة النساء. وقد استندت الجلسات إلى استمارة أُعِدَّت مسبقاً، وشملت مجموعات من الأسئلة التي غطَّت جوانب مختلفة في تقييم القطاع القضائي، مستهدفة مختلف الشرائح. وقد تم بنائها بالاعتماد على مصادر البيانات الثانوية، إضافة إلى مجموعة مقابلات استطلاعية أجراها الباحث مع محامين وقضاة في دير الزور وبعض “الأقاليم” الأخرى التابعة للإدارة الذاتية.
- مصادر ثانوية: تمثّلت بمسح مختلف الدراسات السابقة، على ندرتها، إضافة إلى التقارير الحقوقية ذات الصلة، والصادرة عن منظمات دولية ومحلية، وكذلك التقارير الصحفية المنشورة والمتعلقة بأبعاد الموضوع. مقابل مسح معظم المرجعيات القانونية والوظيفية الناظمة لعمل السُلطة القضائية، والمُقرّة رسمياً من قبل الإدارة الذاتية، والاطلاع على بعض القرارات والوثائق الصادرة عن المحاكم بمختلف درجاتها.
تنبع أهمية هذه الورقة من موضوعها المتمثل بالقضاء، الذي يُعتبر مؤشراً مهماً لتقييم العديد من جوانب الحوكمة، بما في ذلك كفاءة الإدارة، مستوى الأمن والاستقرار، وطبيعة العلاقات المدنية-العسكرية. الأمر الذي يجعل القضاء على رأس أولويات أي مشروع جاد للإصلاح الحوكمي، خاصة في دير الزور التي تعاني إشكاليات حوكمية مُركَّبة، ساهمت بشكل مباشر في زيادة هشاشة البيئة الأمنية، ومثّلت أحد الأسباب غير المباشرة للصدامات الأخيرة التي شهدتها المنطقة.
ولعلَّ ما يزيد من أهميتها، الأهداف التي تسعى إليها والسياق الذي تطرح فيه، إذ تُشكِّل الورقة جزءاً من مشروع منظمة العدالة من أجل الحياة، والذي يهدف إلى تقديم سلسلة أوراق متعلقة بدراسة إشكالات القطاعات الرئيسية والحيوية في مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، على رأسها القضاء، وتقديم توصيات واقعية قابلة للتنفيذ، تعكس تطلعات المجتمع المحلي، وتعزّز من دور القضاء وغيره من المؤسسات في حفظ الأمن ودعم الاستقرار، وكذلك مشاركة الأهالي في صناعة القرار وإدارة المؤسسات ضمن مناطقهم، عبر دعم ثقافة الحوار حول مطالب الإصلاح بين المجتمع المحلي والإدارة الذاتية من جهة، مقابل توسيع دور المجتمع المدني كوسيط حقيقي في هذا الحوار من جهة أخرى.
لقراءة الورقة كاملة: النظام القضائي