سوريتنا بريس / محمد عبد الرحمن | 25 أيار 2015 | العدد 192
للمرة الثالثة تحاول ناديا الوصول إلى دير الزور المحاصرة لاستلام راتبها الشهري، وللمرة الثالثة تفشل بعد قضاء ليلتين متتاليتين على الضفة الموحشة، مع أناس غرباء، هي ليست السيدة الوحيدة التي تتحدى فتوى داعش بتكفير من يقبض راتبه من النظام، وتحاول التسلل إلى مدينة دير الزور.
“في مدينة دير الزور يوجد مال بلا مواد غذائية، وفي ريفها يوجد مواد غذائية لكن بلا مال”، بهذه العبارة تلخص (ناديا)، معلمة تقيم في مدينة الميادين، حال دير الزور، وشكلان من أشكال الموت البطيء يحيطان بأهلها منذ أن أعلن التنظيم حصارها، وتضيف (ناديا): “منع الأهالي من استلام رواتبهم مرّ بعدة مراحل، بدأت بالوعظ والإرشاد، ونصح الأهالي بعدم التعامل مع النظام “الكافر”، ثم تطوّر الأمر إلى منع دخول الناس إلى المدينة، ثم مصادرة سيارات نقل الركاب واعتقال السائق والركاب أحياناً، إلى أن بلغ ذروته بصدور فتوى تكفير بحق كل من يتقاضى راتبه من النظام”.
ورغم الرعب الذي أثارته الفتوى بين الأهالي، إلا أن الوضع الاقتصادي المتردي وانعدام مصدر آخر للرزق دفعهم للمغامرة ومحاولة التسلل إلى المدينة، معرضين أنفسهم لخطر الموت قنصاً أو بفتوى التكفير في حال العودة، وحتى إن لم يطبق التنظيم الفتوى بعد، لكن إمكانية تطبيقها قائمة في أي لحظة.
والنساء في دير الزور هن الشريحة الأكثر مجازفة في هذا الأمر، وتبرر (ناديا) ذلك بقولها: “إن الوضع الأمني القلق في مدينة دير الزور، وشائعات فرض التجنيد تمنع الشبان من دخول المدينة، إضافة إلى أن النساء أسهل مروراً على حواجز النظام من الرجال، والمرأة تلقى تعاطفاً في الدوائر الحكومية لا يلقاه الرجال”.
المغامرة بالحياة مقابل الراتب الشهري:
وحول أهم الطرق التي يسلكها “المتسللون” تذكر (أم محمد) سيدة من ريف دير الزور: “أن هناك طريقان، الأول عبر البادية وهو شديد الخطورة ولم يعد يسلكه أحد مؤخراً، بسبب انتشار عناصر داعش في البادية، ما قد يؤدي إلى الاعتقال أو الاستهداف من قبلهم، والطريق الثاني هو الطريق الأكثر استعمالاً، حيث يصل من يرغب بدخول المدينة إلى قرية الجنينة، وبعدها إلى ضفة النهر ويحاول قدر الإمكان التخفي بين الزل “نوع من النباتات النهرية الكثيفة”، والانتظار حتى يأتي القارب من الضفة الثانية لنقله، وقد يأتي في اليوم الأول أو الثاني وقد لا يأتي قبل أسبوع، الموضوع يتوقف على الوضع الأمني في المنطقة” وتضيف (أم محمد): “هذا القارب يأتي ليلاً لأن عناصر داعش لا يتواجدون في المنطقة بعد غياب الشمس، ولكن بالمقابل فإن غياب داعش لا يعني غياب الرعب فالشاطئ غير مضاء ومليء بالأعشاب الكثيفة والكلاب الشاردة، إضافة إلى خطر الطيران، الذي لا نعرف كيف أو متى يمكن أن يقصف المنطقة، ساعات من الرعب يعيشها الناس على الضفة، قد تنتهي بقدوم القارب وانتهاء مرحلة من مراحل المعاناة. أو قدوم الفجر، وبالتالي الاضطرار للعودة إلى القرية والمبيت في أحد المنازل، بانتظار ليل آخر”.
ولعل المفاجئ في الأمر، أن أجرة القارب هي 5000 ليرة، أي ما يعادل خمس أو سدس الراتب الذي تتم المغامرة من أجله، وفي سياق ذلك، تشير (أم محمد) إلى “المعاملة السيئة التي يلقاها “المغامرون” حين يستقلون القارب من الحاجز التابع للنظام عند منطقة فرات الشام حيث يتم التحقيق معهم، وتفتيشهم تفتيشاً دقيقاً، والتعامل معهم بريبة، وبعد تجاوز الحاجز، يتم دخول المدينة وبالتالي عملية استلام الرواتب، ثم العودة بسيارة أجرة، تقتص من الراتب 1500 ليرة وهي تقل الشخص باتجاه قرية عياش، قبل العودة بقارب آخر، يلتهم قسماً من الراتب أو ما تبقى منه”. وتؤكد (أم محمد)، أن “الرحلة قد تكلف حوالي عشرة آلاف ليرة سورية، ما يشكل نصف الراتب الشهري تقريباً، وهو مبلغ كبير ولكننا لا نملك خياراً آخر غير المغامرة من أجل العشرة المتبقية، والتي بات الآن من شبه المستحيل الحصول عليها بعد التصعيد الحالي بين النظام والتنظيم، لأن الأخير صار يستخدم الرصاص الحي في منع عمليات التسلل”.
“بيعة جهاد” مقابل العمل:
ويذكر ناشطون أن تنظيم الدولة بدأ مع مطلع 2015، بمنع الأهالي من استلام رواتبهم دون أن يوجد بدائل مناسبة، ما جعل ريف دير الزور يعيش في وضع انساني سيء جداً، ويرد (بشار صبحي) من أبناء دير الزور هذا الإجراء من قبل التنظيم إلى غايتين، الأولى تخلص التنظيم من الانتقاد الموجه له، حين يسمي نفسه “دولة” ورعاياه يقبضون رواتبهم من “دولة معادية”. والغاية الثانية هي إكراه الناس على مبايعته لأنه سيكون الملجأ الوحيد للكثير من الشباب الذين لا دخول لديهم. مضيفاً، أنّ التنظيم عمل على الإعلان عن فتح باب التوظيف في العديد من المجالات أهمها التعليم، لكنه عاد واشترط على من يريد التعليم لديه أن يكون مبايعاً “بيعة جهاد”، وأن يخوض معسكراً للتدريب على حمل السلاح، على حدّ قول (صبحي).
وحول تعامل النظام مع معاناة الناس في هذا الخصوص، يرى ناشطون أنه كان يمكن للنظام أن يسهل الأمر على الموظفين في الريف وذلك عن طريق تسليم الرواتب في مدينة أخرى كالحسكة، كما سبق له أن فعل في عام 2012، إلى جانب تخلّيه عن رفض تسليم الراتب بغير الحضور الشخصي.
“ساعات من الرعب يعيشها الناس على الضفة، قد تنتهي بقدوم القارب وانتهاء مرحلة من مراحل المعاناة. أو قدوم الفجر، وبالتالي الاضطرار للعودة إلى القرية والمبيت في أحد المنازل، بانتظار ليل آخر”.