بدافع الحرص على تخفيف معاناة أطفال وطننا الجريح سوريا، الذين تعرضوا لمواقف ومشاهد عنف متعددة، إضافة إلى معاصرة أحداث الحرب والدمار اللذين حلا بالبلاد وبالتزامن مع دمار اجتماعي أصاب الأسرة ، كان له أثراً بالغاً في ذاكرة الأطفال، حيث انعكس سلوكياً ونفسياً بشكل غيّر مسار حياتهم وأثر على محيطهم.
فمن خلال معايشة الأطفال خلال العام الدراسي الحالي، ومن خلال ملاحظات على أنشطتهم: “الرسوم، والألعاب” التي تعكس حالتهم النفسية وسلوكهم، فقد لاحظنا مدى تأثرهم بالحرب، ومدى فقدانهم التوازن النفسي، واحتفاظ ذاكرتهم بصور مرعبة من القصف والقتل والنزوح المتعدد أو رحلات الهروب من مناطق تنظيم الدولة، وذلك النزوح المترافق بالخوف والقلق والمصير المجهول.
ولعلّ التأثر الأكبر عليهم هو فقدانهم الشعور بالأمان حتى مع العائلة، إذ ينهار ذلك الملجأ الحصين للطفل عندما يرى الأب أو الأم أو الأخ الأكبر يرتعد خوفاً وهلعاً.
وتتعاظم تلك المشاكل النفسية في ظل أسرة ومجتمع لا يعير اهتماماً لمعاناتهم، وما يترتب عليهم لمعالجتها في ظل غياب الأخصائيين النفسيين والمعلمين المؤهلين، والمجتمع الذي لا يعي انعكاسات المشاكل النفسية على الأطفال.
في ريف إدلب الشمالي يوجد أطفال من بيئات مختلفة، وفي إحدى المدارس التي تضم تلاميذ من مختلف المحافظات السورية، إذ يمكن اعتبارها عيّنة مصغّرة عن أطفال سوريا.
كما يوجد تلاميذ منقطعون عن المدرسة منذ أكثر من سنة أو سنتين، عاودوا الدوام، وهذه المدرسة تستوعب تلاميذ ذكور وإناث من سن 6 سنوات إلى 15 سنة، من الصف الأول إلى الصف السابع.
ومن خلال معايشة الطلاب الذكور لوحظ تأثير الحرب عليهم بشكل أوضح من الإناث، عبر المظاهر الشكلية والسلوكية وذلك من خلال لباسهم وألعابهم ورسوماتهم وميولهم العدوانية وأذيتهم لأقرانهم، وابرازهم لقوتهم ومهاراتهم البدنية، وتراجع مستوى التركيز الذهني لديهم، مقارنة بالإناث وبالسنوات التي سبقت الحرب.
كما لوحظ على الطلاب الذكور، الشرود والنسيان وتغيرات انفعالية وسلوكية غير مرغوب بها، مثل الكذب والوشاية بالأصدقاء والسرقة والعراك.
أما بالنسبة للإناث فهنَّ أكثر خوفاً وهلعاً من الذكور أثناء سماع صوت الطائرات، حيث لوحظ عليهن محاولة الظهور بالمظهر اللائق والحسن، وهن أكثر تركيز من الذكور، فالإناث يحاولن إثبات الذات من خلال الأعمال المنزلية، والتفوق الدراسي واللباقة والأناقة، بينما الذكور يحاولون إثبات الذات من خلال القوة والمظاهر الرجولية والمهارات البدنية.
والأطفال الذين عاشوا لفترات في المناطق الساخنة ومناطق تنظيم الدولة، هم أكثر تأثّراً من أقرانهم، لأنّ ما حدث أمامهم من قصف وقتل وجلد وترهيب، كان أكبر من أن تتحمله عقولهم، وقد طبعت بذاكرتهم مشاهد الرعب والخوف والقتل، ما انعكس على الطفل وتكوينه النفسي والخلقي والجسمي، وهو ما ترك أثراً بالغاً على سلوكه الاجتماعي والانفعالي والنفسي.
ولعلّ النزوح يأتي في المرتبة الثانية من حيث التأثير على الأطفال، فغياب الأقارب والأصدقاء أو فقدان أحد من أفراد الأسرة، وكذلك لتغير البيئة التي كان يعيش فيها الأطفال وضغوط التكيف مع البيئة الجديدة، كلّ ذلك كان له تأثيراً كبيراً على صحة الطفل النفسية والانفعالية، إضافة إلى حال بعض الأسر النازحة وما تعانيه من مشاكل وضغوط نفسية أو مادية، بسبب ترك العمل والمنزل، أو فقدان مصدر الرزق أو فقدان الممتلكات، أو فقدان أحد أفراد العائلة أو تشتت العائلة في أكثر من مكان أو بلد، كل ذلك أفرز حالات جديدة أو زاد من حالات موجودة داخل الأسرة على شكل عنف أسري وسوء معاملة أو إهمال وعدم رعاية ما أدى إلى جنوح بعض الأطفال إلى الانعزال والعدوانية والتردد وانعدام الثقة بالنفس وعدم الشعور بالأمان ضمن العائلة، وخلل في شكل وطبيعة العلاقة داخل الأسرة تظهر المشاكل بين الأخوة في الأسرة الواحدة، والعناد وعدم طاعة الآباء.
ولا شك أنّ الأوضاع الاقتصادية للأهالي وعدم مقدرتهم على تلبية احتياجات أطفالهم خلال مراحلهم العمرية المختلفة، كان له تأثيراً كبيراً على التوازن النفسي لأطفالهم وعلى علاقاتهم الاجتماعية وشعورهم بالنقص وعدم مساواتهم بأقرانهم، وهذا الشعور يولّد شعوراً بفقدان الثقة بالنفس، ما يجعلهم أكثر ترددّاً باتخاذ القرارات والإجابات، إضافة إلى تأثير الحرب على الأطفال أكثر من باقي شرائح وفئات المجتمع السوري، لأنّ الأطفال هم الفئة الأكثر تأثّراً بالظروف المحيطة من سواهم من الفئات والأقل قدرة على تجنب انعكاساتها النفسية وهذا ما يجعل قضية الأطفال من أهم القضايا التي يستلزم التعامل معها بإعداد برامج دعم نفسي تتناسب والمراحل العمرية للأطفال وتأخذ بعين الاعتبار التغيرات المتعددة المستويات في الآثار النفسية التي خلفتها الحرب والبيئة على الأطفال بمختلف أعمارهم، هذا لأن ّالأطفال هم أساس المجتمع وكما يقول أحد علماء النفس: بأن ّالطفل هو أبو الرجل، وهذه النتيجة العلمية النفسية هي نتيجة أكيدة، فالطفل هو مستقبل المجتمع.