مرصد العدالة من أجل الحياة – آرام العلي
جثثٌ مشوّهةٌ لشبابٍ في مقتبل العمر عليها آثار الحرق والتعذيب، معلقة على عربات عسكرية لقوات النظام تجوب حيي الجورة والقصور بمدينة دير الزور، وجثثٌ أخرى ليست أفضل حالاً رُبطت في مؤخّرة سياراتٍ رباعية الدفع تتبع جيش الدفاع الوطني، كان الجنود يحاولون إحداث أكبر ضجّةٍ ممكنة عبر الصراخ وأبواق السيارات والأغاني التي تحيي الوطن والقائد بغية حشد أكبر قدرٍ ممكن من الناس. احتشدت جموع الناس من كلِّ الأعمار لترقب ما سيحصل، حثّ الجند الأهالي على رمي الجثث بالحجارة والطوب، استنكر معظم الأهالي ما كان واقعاً فراحت الأمهات في البيوت المجاورة تنادي صغارها للدخول إلى البيوت نظراً لبشاعة المنظر والهستيرية التي بدا عليها مؤيّدو النظام. استجاب لطلب العساكر شبيحةٌ وعناصرٌ من الدفاع الوطني، فقذفوا بما استطاعوه من الحجارة الجثَث المُعلّقة. انتشى جند النظام وعناصر جيش الدفاع الوطني بنصرهم ورموا بالجثث أخيراً في حاويات شارع الكرامة بحي القصور.
تكرّر عينُ المشهد مرّاتٍ عدّة في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول -ديسمبر من العائم الفائت، إثر هجوم تنظيم الدولة على الجبل المحاذي لمطار دير الزور العسكري. إلّا أنّ الهجوم فشل يومها واستطاعت قوات النظام أسر وقتل العديد من عناصر التنظيم.
استفزّت تنظيم الدولة تلك الصور الخارجة من أحياء سيطرة النظام في المدينة والتي قام فيها مدنيّون بقذف قتلى التنظيم بالحجارة فيما زغردت بعض النسوة فرحاً بما اعتبرنه نصراً على عناصر داعش. ما دفع بالتنظيم في الخامس من شهر كانون الثاني يناير للإعلان بأنّ قاطني أحياء الجورة والقصور وهرابش “كفَرة” ولن يسمح بعبور أي شخص أو مركبة من وإلى هذه الأحياء. وبهذا أتت تلك التّصرفات الفردية بالويل على كامل المنطقة.
من هنا بدأت المعاناة، حيث التمس التنظيم بعد هذه الحادثة الذريعة المناسبة لتضييق الخناق على جند النظام، وبدأت أيام الحصار التي لم يكن في مخيلة أبناء هذه الأحياء أنهم سيعيشون مثلها إطلاقاً، رغم الحرب المستمرة قبل 3 سنوات.
بالنسبة لقوّات النظام، لم يتغير شيءٌّ فعليٌّ عليها بعد قرار فرض الحصار، فبعيد سيطرة قوات المعارضة قبل أكثر من عام على معظم أحياء المدينة قام النظام بنقل الدوائر الحكومية الرسمية والمرافق العامة للدولة إلى أحياء سيطرته، ممّا تسبّب بتغيّر التّوزّع الديمغرافي لسكّان الأحياء في قلب مدينة دير الزور، إذ انتقل معظم العاملون بالقطاعات الحكومية إلى الأحياء التي يحم النظام سيطرته عليها. ووفق آخر احصائيّةٍ للهلال الأحمر السوري بات يقطن أحياء الجورة والقصور وهرابش قرابة 200 ألف نسمة نصفهم نساءٌ وأطفال، منهم ثلاثة آلاف عائلة نازحة. أمّا الكارثة الأكبر جرّاء هذه التغييرات فتمثّلت في قطاع التعليم، إذ انتقل معظم المعلمين لتلك الأحياء حرصاً على رواتبهم التي تشكّل مصدر عيشهم الرئيس، فسُجِّل في مدرسة عدنان المالكي وحدها 300 معلم يمارسون عملهم في دوامين صباحي ومسائي.
مع اشتداد الحصار كانت قذائف التنظيم تتساقط على الأحياء المحاصرة، لتقتل من سكان هذه الأحياء النّاجين من الموت اليومي المتمثّل بالجوع والمرض.
خطوط الإمداد العسكريّة لقوات النظام لم تتأثر عملياً كذلك، فطائرات الشحن تهبط بشكل شبه يومي في مطار دير الزور العسكري مُحمّلةً بالمؤن والذخيرة للعناصر في الثكنات وعلى الجبهات. مع طول أمد الحصار وبدء نفاذ المؤن من المحال التجارية، اعتمد السكان على شراء ما تنتجه الأراضي الزراعية من خضرواتٍ في قرية البغيلية في الريف الغربي للمدينة بأسعارٍ تتجاوز عشرة أضعاف السعر الطبيعي.
تماهى النّظام مع الحصار بشكلٍ أكبر مع مرور الأيام، فراح يعتمد اقتصاد الحرب، فيما يتحكّم بالحركة التجارية ضباطٌ من الجيش والأمن، كما كان النّظام يغضُّ الطرفَ عن ممارسات ضباطه وجنده في بيع الحصص المرسلة إليهم بأسعار باهظة للسكان المحليين، وطائرات الشحن العسكرية باتت تعمل كطائرات شركة شحن جوي تماماً، فبدأ النظام يتقاضى من التّجار المرتبطين به مبلغ 3 دولارات عن نقل الكيلو الواحد من البضائع لنقله من دمشق إلى دير الزور.
كلُّ هذا الوضع المأساوي لم يفقد الديريّين حس الدعابة، فالعقيد ياسين بات لقبه أمير المازوت والمساعد جميل في الأمن العسكري لُقّب بأمير الرز لتحكّمه ببيع هذه المادة.
إلى ذلك، انتشرت في الآونة الأخيرة بين الأهالي ظاهرة مقايضة الأثاث بالسلع الغذائية لشحٍّ النقود بين أيدي المُحاصرين، إذ يقول “محمد”، وهو أحد الخارجين مؤخراً من الحصار، “لم نعد نملك الأوراق النقدية وهذا حال معظم النّاس هناك، قبل أن أخرج بدّلت أربعة كراسٍ بلاستيكيّة وطاولة كومبيوتر بعلبة ساردين وكيلو أرز”.
في بداية آذار من العام الحالي سمح النظام بخروج المدنيين الذين يعانون من حالات صحية حرجة، بنقلهم جواً إلى دمشق في طائرات الشحن أو المروحيات العسكرية مع القتلى والجرحى من العسكريين في صفوف الجيش أو براً عبر حواجزه بعد أخذ موافقة أمنية من العقيد خضور قائد العمليات العسكرية في المدينة، وعلى الطرف الآخر يكون بانتظارهم عناصر التنظيم الذي عفا مؤخراً عن المدنيين المحاصرين واسقاط تهمة “الكفر” عنهم وحثهم على الخروج قبل فوات الأوان.